الأحزاب السياسية في الكويت .. واقع قائم ومستقبل منظور
الأبحاث المنشورة
عدد القراءات:
6174
تحميل نسخة PDF من البحث
يتفق المشتغلون بالعلوم السياسية على أن الحزب السياسي هو اجتماع أفراد بهدف تحقيق غرض سياسي , ولكنهم من بعد ذلك يختلفون (موسوعة العلوم السياسية ، الكويت ، 1993 – 1994 ، ص 533 ولاحقاً). فالبعض ينظر للحزب كأداة تهدف للوصول للحكم عبر اقتراح برنامج أمام الناخبين في إطار الديموقراطية النيابة. والتعريف السابق يربط بين الأحزاب والديموقراطية وبالذات في النظام البرلماني. وبعض التعريفات ترى أن الحزب هو تجمع أفراد حول قناعة سياسية بغرض الوصول إلى السلطة بغض النظر عن الأسلوب. ويرى توجه آخر أن فكرة الحزب تتحقق بمجرد وجود فكرة سياسية يدعو الحزب للأخذ بها بغض النظر عن هدف الوصول المباشر للسلطة. ونلاحظ أن التعريفات السابقة تتأثر بالمحيط الذي ينشأ فيه التعريف ففي وسط ديمقراطي من المنطقي أن يرتبط هدف الحزب بمشروعية الوسيلة، وفي وسط لا تمارس سلطة الحكم الديمقراطية تضمر الانتخابات كوسيلة عمل للحزب، وتظهر وسائل أخرى أياً كان نوعها.
والنظام الديمقراطي للأحزاب يتأثر بعوامل وعناصر متعددة :-
- الطبيعة الأيدلوجية لنظام الحكم :
كلما كنا أمام نظام قائم على عقيدة شمولية كلما كنا أمام توجه لقصر حق تكوين الأحزاب على أطراف أقل، بل نتوجه من الناحية العملية لنظام الحزب الواحد. والنتيجة السابقة منطقية فقيام نظام الحكم على أساس عقائدي شامل يقود إلى الإحساس بامتلاك الحقيقة كاملة وهذا يعنى أن ما هو خارج إطار الحقيقة هو خطأ غير مقبول ومضر بالجماعة ولذلك يجب منعه. واذا لم تقصر الانظمة العقائدية الحزب على واحد , فإنها تضع إطاراً عقائدياً يوجب على أي حزب الإلتزام بخطوط فكرية دقيقة , تقيد إنشاء الأحزاب و تعطي للنظام المكنة لإلغاء أو تحريمأي حزب .
الطبيعة الأبوية لنظام الحكم :
في نظم الحكم الأبوية يسود توجه لاعتبار أن الصورة المثالية هي اتصال أفراد الشعب بالحاكم (الأب) مباشرة ، ونظام الحزب هو مرحلة وسطية بين الأفراد المنعزلين والحاكم ، ومن المنطقي أن الأب لا يقبل بوسطاء بينه وبين أبنائه. ونلاحظ أن الأنظمة الأبوية تتقبل بشكل أكبر المؤسسات الوسيطة ذات الطابع التقليدي مثل القبيلة أو الطائفة الحرفية أو التجمع الديني باعتبار أن هذه المؤسسات ذات طبيعة لا تتجافي مع جوهر النظام الأبوي فهي مؤسسات قائمة على انصياع الفرد لتنظيم هرمي على أساس عاطفي.
وبالنسبة للكويت فإننا نلاحظ أن تجمع الأفراد بغرض تحقيق مشروع سياسي , ظاهرة قديمة نسبياً مع الأخذ بالاعتبار حداثة نشأة الكيان السياسي في الكويت ، فنشأة مجلس الأمة التشريعي عام 1938 مرتبطة بتنظيم سياسي كان يطلق على نفسه كتلة الشبيبة الوطنية (انظر على سبيل المثال د. عثمان عبدالملك الصالح ، النظام الدستوري والمؤسسات السياسية في الكويت ، الكويت ، 1989 ص 101 ولاحقاً) وقد زاد ظهور التجمعات السياسية في الكويت قبل الإستقلال و كانت تأخذ في الغالب شكل الجمعيات , كما أن بعض الكويتيين الذين ذهبوا للدراسة في الخارج شاركوا بفاعلية في مثل هذا النشاط وحملوا معهم عند عودتهم للكويت خبرات تنظيمية مهمة . ولا يعنينا في هذه الورقة رصد هذا التاريخ بشكل دقيق ولكننا وفي سبيل التدليل على ظهور هذا الأمر في المجتمع الكويتي في الفترة السابقة على الاستقلال نكتفي بالإشارة لقانون إنشاء غرفة تجارة الكويت وهو صادر عام 1959 ، فمادته العاشرة تحظر على الغرفة "تقديم أي مساعدة أو معونة إلى الأحزاب السياسية (إن وجدت) بصورة مباشرة أو غير مباشرة ". فاعتناء المشرع بالإشارة للأمر عام 1959 دليل على أن المسألة كانت حاضرة في ذهنه بل إننا نعتقد بأن لفظ (إن وجدت) يكشف عن إحساس بإمكان وجودها آنذاك بصورة مشروعة.
وإذا انتقلنا من الماضي إلى الحاضر فإننا نلاحظ أن القانون الكويتي قد أخذ موقفاً (والدستور صورة من صور القانون) كما أن موقف القانون يثير حالياً ردود فعل تطالب بتغييره مع ما يستدعي هذا التغيير من ضوابط. ولذلك فإننا تعرض للموضوع من خلال الوضع القائم حالياً والوضع المتصور في المستقبل.
أولاً : الوضع القائم :-
عند إعداد الدستور الكويتي كان هناك توجهان في موضوع الأحزاب السياسية :-
- توجه يرى وجوب إعلانها وتنظيمها والمنطق الذي ينطلق منه مفهوم جداً ، فالتوجه للنظام البرلماني يصبح غير مفهوم في غياب الأحزاب السياسية ، ذلك أن جوهر النظام البرلماني هو أغلبية واضحة في البرلمان يمكن التعامل معها لتشكيل الحكومة، وبدون وجود أحزاب معلنة تتقدم ببرنامج للانتخابات لا يمكن تحديد أغلبية والتعامل معها بهذا الوصف.
- توجه يرى أن الأحزاب السياسية ليست إلا منبع لعدم الاستقرار ، وأن العلاقة بين الحاكم والمحكومين لا تستدعي وسيط فالمجتمع الكويتي صغير العدد تعتمد العلاقة فيه على أسلوب "الوجه بالوجه". ومن جانب آخر فإن المؤسسيين لم يكونوا على اتفاق بشأن النظام البرلماني التقليدي ، وكان توجههم صوب نظام آخر في العلاقة بين السلطات قائم على تحوير النظام البرلماني بإدخال عناصر من النظام الراسي فيه كي لا يغدو مسند الإمارة كرسياً خالياً. وقد انعكس هذا التوجه على صياغة الفكرة المذكرة التفسيرية فنجدها ، عند الكلام عن المسئولية السياسية في النظام البرلماني فهي ترى أنها من أكبر أسس البلاد بل يتصور أن وجودها قد يكون أساساً لوجود "الأحزاب السياسية" ويرتبط ذلك كله بالصراع على تحريك المسئولية التضامنية. وتقرر المذكرة التفسيرية أن هذه "المسئولية هي التي يخشى أن تجعل من الحكم هدفاً لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب ، بل وتجعل من هذا الهدف سبباً رئيسياً للانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك ، وليس أخطر على سلامة الحكم الديمقراطي من أن يكون الانحراف أساساً لبناء الأحزاب السياسية في الدولة بدلاً من البرامج والمباديء". وترسم المذكرة التفسيرية للدستور نتيجة كارثية للوضع السابق فتقرر أن الحريات ستضيع باسم حمايتها والعمل السياسي سينحرف عن موضعه كي يصبح تجارة باسم الوطنية "ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية النمطية" وإذا كانت الصورة السابقة تبدو لأول وهلة قصيدة هجاء في نظام المسئولية التضامنية وهو أحد أعمدة النظام البرلماني التقليدي ، إلا أن الهجاء فيها ينصرف أيضاً للأحزاب السياسية باعتبار أنها من الأدوات الضرورية للنظام البرلماني التقليدي. وإذا شئنا أن نقدم قراءة أخرى للمذكرة التفسيرية فإننا نستطيع أن نقول بأن الأحزاب السياسية مرفوضة بقدر ارتباطها بالنظام البرلماني التقليدي. وعلى كل حال فإننا نعلم بأن عبدالله السالم قد طلب من بعض أعضاء المجلس التأسيسي استبعاد إقرار الأحزاب السياسية (مقابلة صحفية مع عبداللطيف ثنيان الغانم رئيس المجلس التأسيسي ، السياسة 12/11/1974) ونتيجة لوجود الموقفين السابقين ، فإن صياغة المادة 43 لم تورد لفظي "الهيئات" التي تشمل الأحزاب السياسية ، وتقرر المذكرة التفسيرية بأن المسلك السابق لا يعنى منع إنشاء الأحزاب السياسية ولكن يعنى إيكال أمرها للمشرع العادي الذي ينظمها بقانون يصدر عنه في المستقبل. وبالرغم من الموقف الذي أوضحته المذكرة التفسيرية للدستور إلا أنها في موضع آخر (تفسير المادة 56 من الدستور) تقرر أن المشاورات التي يلزم على الأمير إجرائها قبل تعيين رئيس مجلس الوزراء تشمل "رؤساء الجماعات السياسية" وهذا أثر للتوجه الذي يرى وجوب وجود تنظيمات سياسية حتى لو لم تسمى أحزاباً سياسية بشكل آلي. في إطار الموقف الذي رسمه الدستور ، من المنطقي أن نعرض للواقع القانوني الأحزاب السياسية في الكويت ومن ثم للواقع الفعلي لموضوع الأحزاب.
أ- الواقع القانوني : -
لعدم صدور القانون الذي أشارت إليه المذكرة التفسيرية أثر كبير على واقع الأحزاب السياسية ، فهي ليست ممنوعة بنص صريح كما لا يوجد نص ينظمها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأحزاب السياسية هي شخص اعتباري لا يمكن أن يوجد من الناحية القانونية إلا إذا نظم القانون أمر وجوده ، إما بنص مباشر أو وفق نظام يحدده القانون (م 18 من القانون المدني) وفي غياب التنظيم القانوني فإن "الحزب" لا يمتلك الأهلية القانونية التي تتيح له اتخاذ التصرفات القانونية باسمه ولحسابه. ومن جانب آخر فإن القانون قد أحكم الطوق على الأحزاب السياسية ومنع عليها سلوك سبل قانونية بديله ، فأقرب الأشخاص القانونية للأحزاب من حيث الطبيعة هي الجمعيات ، وقد كبل القانون الجمعيات كي لا يسمح لها بإسعاف الأحزاب، فجعل انشائها مربوطا بنظام الترخيص الإداري المسبق (م2 و 9 من القانون 24/1962 في شأن الأندية وجمعيات النفع العام) كما حرم ذات القانون على جمعيات النفع العام الاشتغال بالسياسة (م6). وإذا كان حصول الحزب السياسي على الشخصية الاعتبارية ، اللازمة لممارسة نشاطه بشكل منظم ، غير ممكن في ظل غياب التنظيم القانوني، فإن الأمر من الناحية الجنائية مختلف تماماً ، فمبدأ المشروعية الذي يحكم قانون الجزاء يقود إلى اعتبار كل ما لم يطله نص صريح بالتجريم، من المباحات. وقد جرم قانون الجزاء الدعوة " إلى اعتناق مذاهب ترمي إلى هدم النظم الأساسية في الكويت بطرق غير مشروعة" (م29 من القانون 31/1970 بتعديل بعض أحكام قانون الجزاء) وتقرر المادة 30 من ذات القانون : تحظر الجمعيات أو الجماعات أو الهيئات التي يكون غرضها العمل على نشر مباديء ترمي إلى هدم النظام الاجتماعي أو الاقتصادي القائم في البلاد". وتقرر المواد السابقة عقوبات على المنظمين والداعين أو المنظمين لهذه الأحزاب أو الجماعات وهم عالمين بطبيعتها. وبما أن التجريم ينصرف إلى إنشاء أو الانضمام إلى الأحزاب التي تهدف إلى هدم النظم السياسية بطرق غير مشروعة أو الانقضاض بالقوة على نظام البلاد ، فإن انشاء حزب لا يتصف بالصفات المذكورة في القانون غير محرم ولا يجوز أن يطال العقاب فاعله. فإذا كان الواقع القانوني للأحزاب هو فراغ من جهة وتحريم ينصرف إلى حالات محددة من جهة أخرى فإن الواقع الفعلي مختلف عن ذلك.
2- الواقع الفعلي :-
في أي جماعة سياسية من المنطقي أن يوجد تنظيم سياسي، إن لم يكن معلناً فسيكون سري وإن لم يكن مشهراً فسيكون فعلي. والكويت لا تفلت من المسلمه السابقة ولكن عدم إشهار التنظيم السياسي على شكل أحزاب سياسية ، دفع إلى ظهور أشكال أخرى للتنظيم السياسي إما من خلال كيانات قانونية قائمة وبالذات جمعيات النفع العام والجمعيات التعاونية أو من خلال كيانات لا تستند لشكل قانوني محدد.
أ- جمعيات النفع العام :
استعارة التنظيم السياسي لهيكل جمعيات النفع العام قاد في أحيان لحل جمعيات النفع العام أو إلغاء وجودها (نادي الاستقلال ، الجمعية الثقافية الاجتماعية) كما قاد في أحيان أخرى إلى إعطائها صفة في النشاط السياسي (بعد حل مجلس الأمة عام 1976 تم توزير رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي وذكرت صفته في وثائق التوزير) وفي حالة أخرى تم إشهار جمعية نفع عام بطريقة استثنائية لاعطاء تيار سياسي أداة قانونية يمارس النشاط من خلالها (جمعية التراث الإسلامي).
ب- كيانات لا تستند لشكل قانوني محدد :
وقد برزت هذه الظاهرة بعد التحرير ، فظهرت هياكل لتنظيمات سياسية دون الدخول في إطار قانوني محدد ومثال ذلك الحركة الدستورية الإسلامية وحزب الأمة والمنبر الديمقراطي الكويتي والتجمع الشعبي وحركة التوافق الوطني الإسلامي.
ونلاحظ أن كلا الحلين لا يخلو من عيوب، وأحياناً جسيمة ، فدخول التنظيم السياسي في إطار جمعيات النفع العام يضر بفكرة المجتمع المدني فمؤسسات المجتمع المدني وجماعات العمل التطوعي لا تتوائم مع الدور السياسي المباشر للأحزاب السياسية فلكل من النشاطين ، على أهميته ، وسائله الخاصة وأهدافه الخاصة، ودخولهما في نفس الإطار يلحق الضرر بكل منهما ، ولذلك فنلاحظ أن بعض جمعيات النفع العام خلقت كياناً خاصاً لنشاطها السياسي المباشر (جمعية الإصلاح والحركة الدستورية). أما خلق كيانات لا تستند لشكل قانوني محدد فإنه يحرم النشاط السياسي من إمكان الشفافية ويجرده من القدرة على استخدام الأدوات القانونية في التنظيم فهو من الناحية القانونية غير موجود ككيان ولذلك لا يستطيع إتيان التصرفات اللازمة لتنظيم العمل باسمه المباشر وبصفته المعلنة. الآثار السابقة المرتبطة بالواقع الفعلي للأحزاب السياسية تدفعنا للتساؤل عن المستقبل المنظور للأحزاب السياسية في الكويت.
ثانياً: المستقبل المنظور
الواقع القائم يدفع عقلاً لوجوب إشهار الأحزاب السياسية ويوجب تنظيمها فهي من الناحية الوظيفية والعضوية موجودة دون أن يكون لها وجود قانوني يضبطها. ولعل دورها المستقبلي هو الذي أثر ويؤثر ، في رأينا ، على التوجه لإشهارها وتنظيمها. فالدستور الكويتي كما أسلفنا لا يأخذ بالنظام البرلماني التقليدي ولكنه يأخذ بنظام يسمح له بالاقتراب منه جداً كما يسمح له بالابتعاد عنه إلى حد كبير. (مستقبل النظام البرلماني في الكويت. د.محمد الفيلي ، مؤتمر القانون وتحديات المستقبل في العالم العربي ، الكويت ، 1999 ، الجزء الأول ، ص 95 ولاحقاً).
فوفق المادة 56 من الدستور الكويتي ، يعين الأمير رئيس مجلس الوزراء بأمر أميري ولذلك فإن تشكيل الحكومة لا يرتبط بالضرورة بوجود أغلبية برلمانية ولكنها ترتبط فقط بالإرادة المنفردة للأمين ورئيس مجلس الوزراء. وفي نفس الوقت يوجب الدستور أن يكون أحد الوزراء من أعضاء البرلمان ، كما يوجب أن يكون أحد الوزراء من خارج البرلمان. ومن جانبها تقرر المذكرة التفسيرية للدستور استحسان أن يكون أكثر الوزراء من داخل البرلمان لأن ذلك أقرب للأصل البرلماني.
ومن غير الممكن عملاً أن يتم اختيار وزارة تنسب للأغلبية في البرلمان ما لم يكن هناك إطار قانوني يمكن من خلاله تقرير أن هؤلاء الأعضاء ينتسبون لكتلة محددة وإن هذه الكتلة تشكل الأغلبية أو الأقلية في البرلمان. نخلص من العرض السابق إلى القول بأن الدستور الكويتي جعل بيد الأمير اختيار وزارة ذات أغلبية برلمانية وقرر أن ذلك يدخل في باب الاستحسان ، كما جعل للأمير أن يقصر وجود البرلمان في الوزارة على وزير واحد (المحلل) ، وإذا كان التوجه صوب الحل الأول فمن المنطقي أن توجد أحزاب سياسية ولكن السؤال ما موقع الأحزاب من الإعراب إذا كان التوجه الثاني هو القائم ، ( قصر وجود البرلمان على عضو واحد) ألا يعتبر وجود الأحزاب السياسية متعارضا مع السلطة التقديرية الواسعة المقررة للأمير في المادة 56. نعرض لهذه النقطة في بداية الأمر ثم نعرض لملامح التنظيم القانوني للأحزاب من بعد ذلك.
1- أثر وجود الأحزاب على السلطة التقديرية للأمير :-
من الناحية القانونية فإن نص المادة 56 من الدستور يقود للقول بان السلطة التقديرية للأمير لا ترتبط بوجود الأحزاب أو عدم وجودها، وفي كل الأحوال فإن الأعمال التحضيرية تؤكد هذا المعنى فالتوجه إلى الحل القائم كان سببه الرغبة في ترك أمر اختيار الوزارة وتركيبتها للأمير. أما من الناحية السياسية فإن أثر وجود الأحزاب على السلطة التقديرية للأمير يرتبط بعدد من الأمور :-
أ- الأثر الحقيقي للأحزاب على الأغلبية البرلمانية :
وفي هذه المسألة فإننا نلاحظ من خلال استقراء الواقع القائم بأن التنظيمات السياسية القائمة لا تعكس وجوداً مؤثراً لها في البرلمان ، فإذا أخذنا تنظيم الإخوان المسلمين كمثال فإننا نلاحظ بأنه حالياً التنظيم الأكثر امتلاكاً للأجهزة الحركية، كما أنه يعيش حالة من مباركة الحكم لنشاطه أو على الأقل عدم اتخاذ إجراءات تعويقية لنشاطه ، ومع ذلك فإن وزنه العددي داخل البرلمان لا يعكس حجم نشاطه المعلن ويمكن قياس الأمر السابق على بقية القوى السياسية، بل إن بعض المرشحين يفضل أن لا يذكر صراحة انتمائه السياسي لانه يعتقد أن الناخب لا يفضل التصويت على أساس سياسي.
ب- سياسة الأمير في اختيار رئيس مجلس الوزراء :-
نحن نعتقد بأن الممارسة القائمة حالياً وهي اختيار رئيس مجلس الوزراء من الأسرة الحاكمة وتحديداً من ذرية مبارك الصباح تضعف اتجاه الناخبين لاختيار أعضاء البرلمان على أساس الهوية السياسية المرتبطة ببرنامج سياسي محدد ، ذلك أن السلوك العام للناخبين يضع المؤسسة البرلمانية في إطار "قضاء المصالح" ، واختيار رئيس مجلس الوزراء خارج إطار البرنامج الانتخابي يقود الناخبين بعيداً عن الاختيار وفق قواعد النظام البرلماني. وفي هذه الجزئية فإننا نعتقد أن استقراء واقع النظام السياسي في الأردن قد يكون مفيداً ، فالتركيبة السياسية في الأردن لا تبتعد كثيراً عن واقع الكويت، ونلاحظ أن الملك في الأردن يختار رئيس للحكومة من خارج الأسرة الحاكمة ، ويعتمد على رؤساء وزارات لا يرأسون أحزاب ذات أغلبية برلمانية ، يقومون بالتنسيق مع الكتل البرلمانية القائمة. إذاً وجود الأحزاب السياسية واختيار رئيس الحكومة من خارج الأسرة الحاكمة لم يؤثر على صلاحيات الملك ، بل هو قواها في الواقع لأن الملك أصبح يمارس دور الحكم دون أن تتأثر مؤسسة رئاسة الدولة بالآثار السلبية لمشاكل الحكومة في الحياة اليومية. وبالنسبة للكويت فإن الدستور قد وفر للحكومة أدوات تضمن لها مواجهة الكتل البرلمانية بشكل معقول.
نخلص مما سبق إلى أن المؤشرات الموجودة حالياً لا توحي بأن تنظيم الأحزاب سوف يقود إلى تغيير جذري في موضوع السلطة التقديرية للأمير في اختيار الحكومة، كما أن استقراء بعض الحالات المقارنة يقود إلى الوصول لنفس النتيجة. وإذا ما تركنا الجزئية السابقة جانباً فإننا نلاحظ بأن الأحزاب السياسية بالمعنى الأولي لها موجودة في الكويت فهناك تنظيمات تتكون من أشخاص يسعون لتحقيق هدف سياسي، والواقع المشار إليه يؤثر في تشكيل الحكومة، فهناك حرص على تضمين كل وزارة ممثلين لبعض القوى السياسية المنظمة في الكويت. ووجود الظاهرة دون وجود تنظيم قانوني لهاه يخلق آثاراً سلبية متعددة ، فهو يفسد عمل مؤسسات المجتمع المدني القائمة لأنه يدخل في الأطر القانونية المخصصة لها كيانات ذات طابع مختلف وأهداف مختلفة ، كما أن عدم تنظيم الظاهرة سمح لأطر ومؤسسات لا تتسق طبيعتها مع العمل السياسي في إطار الدولة الوطنية بالقيام بوظيفة سياسية ونعني بذلك القبيلة والجماعات ذات الطابع الديني ، كما أن غياب التنظيم أدى إلى غياب الشفافية وضعف الالتزام. ونضيف للعناصر السابقة أمران إضافيان وهما : توسيع قاعدة الناخبين بدخول المرأة يوجب تغيير قواعد الانتخابات من خلال تنظيم الساحة السياسية ومن جانب آخر فإن مستوى أداء البرلمان أصبح يشكل معوقاً للتنمية والإصلاح السياسي ، وهذا الواقع الذي تشتكي منه الحكومة قبل المراقبين السياسيين يرتبط بأسلوب الانتخاب المتمثل بنظام الدوائر الصغيرة وهو يقود الى الاعتماد على التأثير الشخصي للمرشح. وإذا كان من ضمن أدوات معالجة الامور السابقة تعديل نظام الدوائر الانتخابية فإن مثل هذا التعديل يزداد أثره الايجابي بتنظيم العملية السياسية بأدوات واهمها اشهار الأحزاب السياسية وفق تنظيم قانوني .
2 – التنظيم القانوني للاحزاب السياسية :- اداة التنظيم محدده في الدستور وهي القانون ولكن محتوى التنظيم لم يقرره الدستور صراحة وإن كان لمح لبعض جزئياته. وفي كل الاحوال فإن محتوى التنظيم يرتبط بالضرورة بطبيعة الاحزاب السياسية ، فهي اداة لضبط ممارسة السياسة في اطار الدولة ، كما انها في التحليل الأخير لاتختلف عن جمعيات النفع العام إلا في الهدف المخصص الذي تنشأ لأجله. والى جانب العناصر السابقة فإن القانون المقارن يمدنا بحلول تصلح ان نأخذ بها ،ونحن نعتقد ان التنظيم القانوني للاحزاب السياسية يلزم أن يأخذ بالاعتبارالمسائل التالية:-
أ – جهة الرقابة على الاشهار ونظامه القانوني، بالنسبة للنظام القانوني للاشهار قد يكون نظام اخطار وقد يكون نظام ترخيص ،ولا حرج في الأخذ بأي النظامين مادام الدستور قد قرر ان حرية انشاء الاحزاب ليست من ضمن الحريات المكفولة دستوريا ، ولكننا نعتقد ان الاخذ بنظام الترخيص المسبق دون ضوابط محدده سوف يقود الى اهدار مبدأ المساواة ومبدأ الامن القانوني فلا تعرف الجماعة مسبقاً رد الجهة التي تملك اصدار الترخيص مادامت الضوابط غير واضحة وغي محدده والجهة التي ينيط بها القانون اشهار الاحزاب أو الرقابة عليها قد تكون جهة الادارة أوقد تكون جهة القضاء وفي هذه الحالة يمدنا القانون المقارن بثلاث انماط :-
- في المانيا يقرر الدستور الاختصاص بالرقابة على الاحزاب للمحكمة الدستورية الاتحادية ، وقد ورد هذا الحكم في الدستور كرد فعل على نشأة احزاب سياسية ادت الى هدم النظام السياسي ( النازية ) ولذلك فإن الدستور يحدد الحالات التي يمكن فيها منع إنشاء الحزب السياسي أو الغائه.
- في مصر لجنة الاحزاب ذات طابع مختلط تضم قضاة ورجال سياسة وهي تابعة لمجلس الشورى. ولعل الحكمة من دمج العنصرين أن موضوع الاحزاب يتضمن عناصر قانونية وسياسية. والحل السابق يعيبه ان امر اشهار الاجزاب تشارك فيه اطراف قد لاتتمتع بالحياد القانوني ،وجعل القانون الاختصاص بالرقابة على قرار اللجنة منعقداً للدائرة الأولى في المحكمة الإدارية العليا ويرأسها رئيس مجلس الدولة ، وإذا كانت هذه الدائرة تنعقد بتشكيل مختلط الا ان دور العنصر القضائي فيها ارجح .
- في فرنسا انشاء الاحزاب يخضع لنفس النظام القانوني الذي تخضع له جمعيات النفع العام – نظام الإخطار الإداري – ولكن القانون يرتب احكام موضوعية خاصة بنشاط الأحزاب مثل قواعد التمويل والشفافية ويكل رقابتها للقضاء .
ب – الطابع السياسي الوطني لحزب :- الحزب حتى لو لم يكن موجها للتنافس على الحصول على اصوات الناخبين في إطار مؤسسات الديمقراطية النيابية، يبقى اداة من ادوات الممارسة الديمقراطية في إطار الدولة الوطنية، ولذلك فإن اهدافه وبرامجه يجب الا تتجافا مع طبيعة الدولة الوطنية، بناء على الاعتبارات السابقة فإن الطابع العرقي او الديني المباشر لايجوز ان يكون اساساً لبرنامج الحزب، لأن هذه الأسس بطبيعتها مغلقة الا على بعض المواطنين. وإذا كان الحزب يجب ان يقوم على اساس وطني خالص مفتوح بطبيعته لكل المواطنين فإن موضوع تأثر برنامج الحزب بالطرح الديني تبقى مسأله دقيقة يلزم فحصها في كل حالة على حده ، ولكن المعيار العام هو هل يؤدي التأثير الديني للبرنامج الى استبعاد طائفة المواطنين عن اطار الحزب ام لا ؟ فإذا كانت الاجابة بالايجاب أصبح برنامج الحزب يتعارض مع المبادئ العامة للاحزاب. وفي اعتقادنا بأن قيام الحزب على شعار ديني يفسد السياسة ويسيء للدين في المحصلة النهائية.
ج – الفصل بين الحزب والسلطة التنفيذية :-
حتى لو كان الهدف من وجود الحزب هو تشكيل الحكومة فإن الادارة العامة يجب ان تبقى مستقلة عن الجهاز السياسي للحكومة وهذا الحكم يجد سنده في عدد من المبادئ :-
- مبدأ تداول السلطة :- فهذا المبدأ يتعارض مع سيطرة الحزب على الجهاز الاداري للحكومة ، لأن الحكومة متغيرة والادارة ثابتة .
- مبدأ حياد الادارة :-وهو من مبادئ القانون الاداري ويقضي بمنع الادارة من اخذ موقف سياسي وعلة هذا المبدأ ان الادارة واحده والاحزاب متعدده.
- مبدأ استقلال الادارة من الحكومة :- وهو منمبادئ القانون الاداري ، وهو قائم على ان للسلطة التنفيذية وظيفتان مستقلتان، وظيفة الادارة ووظيفة الحكم . ويرتب القضاء على هذا الفصل نتيجة مهمة وهي ان اعمال السلطة التنفيذية كجهة ادارة خاضعة لرقابة القضاء الاداري اما نشاطها كجهة حكم في حال ادارتها لعلاقة الحكومة ( كممثلة للدولة ) بالدول الاخرى ، تخرج عن نطاق رقابة القضاء الاداري .
- مبدا المساواة: فلا يجوز التمييز بين المواطنين أمام الإدارة العامة بسبب آرائهم السياسية او مواقفهم.
وعلى كل حال فإن المراقبة العلمية للسلوك السياسي تقود تقود لتقرير بأن الجماعات السياسية المسيطرة على الادارة العامة والاقتصاد تسيئ لممارسة العلملية الديمقراطية لأنها تملك ادوات غير متعادلة مع منافسيها السياسيين، كما أن ضعها الاحتكاري يغريها باستخدام وسائلها غير السياسية لأغراض سياسية.
د – الشفافية :- طبيعة نشاط الحزب السياسي تقتضي الشفافية ، وبدونها يثور التساؤل حول سلامة أسلوب عمل الحزب وحتى حول حقيقة طبيعته الوطنية وخضوعه لمؤثرات داخلية وخارجية لاتتسق مع دورة. وتحقق الشفافية يقتضي ان تكون انظمة الحزب علنية وانشطته الاساسية علنية، كما تتجة كثير من الدول الى تغطية جزء من تمويل الحزب باعتبار ان النشاط الذي يقوم به مهم لسلامة عمل النظام السياسي للدولة وفي نفس الوقت لتقليل مبررات انحرافه في التمويل .
هـ - الطوعية :- الحزب السياسي اجتماع إرادي لمجموعة من الافراد بغرض تكوين تنظيم يسعى لتحقيق هدف سياسي وهذا المفهوم للحزب يقود الى وجوب ان يكون الانضمام للحزب مرتبطاً فقط بإرادة الافراد والحكم السابق ، بالنسبة للكويت ، يمكن اسناده للمادة 43 من الدستور ، فالاحزاب تأخذ نفس الحكم المقرر بالنسبة للجمعيات قيجب أن تقوم على " أسس وطنية وبوسائل سلمية " ولايجوزاجبار أحد على الانضمام الى اي حزب ولعل كفالة استقلال الحزب عن الادارة العامة أو عدم كفالة الأمر يؤثر الى حد كبير على فكرة الطوعية ، فإذا كان لأحد الأحزاب ادوات فعليه تسمح له بتوزيع المكاسب ، فإن طوعية انضمام الافراد اليه تصبح محل نظر.
وفي نهاية هذا الاستعراض لموضوع الاحزاب السياسية في الكويت نود التأكيد على الامور التالية :-
- الاحزاب السياسية بالمعنى الموضوعي قائمة في الكويت ولايجرم القانون وجودها ما دامت لاتهدف لتغيير النظم الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بالقوة أو بوسائل غير مشروعة .
- ان افتقار الاحزاب السياسية الفعلية للتنظيم القانوني يفوت مصلحة الشفافية .
- لايوجد ارتباط بالضرورة بين وجود الاحزاب والسلطة التقديرية للأمير في اختيار الحكومة ، ووجودها يسهل على سمو الامير عملية ادارة علاقة الحكومة بالبرلمان .
- تطوير الحياة السياسية في الكويت يستدعي تنظيم الاحزاب السياسية لأن عدم تنظيمها قاد العمل السياسي لتبني أطر لم توجد في الأساس بغرض القيام بالعمل السياسي وقيامها بهذا الدور أضر بها وأضر بالعمل السياسي .
د. محمد الفيلي
كلية الحقوق – قسم القانون العام