الدين والقبيلة في مواجهة الديمقراطية
الأبحاث المنشورة
عدد القراءات:
2680
العنوان الأساسي للحوار هو مشروع الشرق الأوسط الكبير والتحولات الاجتماعية والسياسية التي قد يحملها إلى المنطقة، وفي هذا الإطار موضوع الدين والقبيلة هو مطروح باعتبار المفهومين السابقين لهما أثر لا ينكر على مفهوم الديمقراطية في المنطقة, ونحن نعتقد أن موضوع العلاقة بين الدين والقبيلة بالديمقراطية موضوع بذاته معقد، ولذلك فان وضعه في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير سوف يضيف له تعقيدات قد تجعل دراسته أكثر صعوبة، ولذلك فاننا نقترح عزل الموضوع عن إطار الشرق الأوسط الكبير، ولو بشكل مؤقت، مع محاولة ربطه بالموضوع بعد ذلك. وموضع الدين على قدر من الارتباط بموضوع القبيلة ولذلك فاننا قد نجد بعض مظاهر التأثير المتبادل بينهما.
فإذا أخذنا الكويت كمثال فاننا نلاحظ أن خطاب الجماعات الدينية في المناطق ذات التأثر الطرح القبلي يختلف عن الخطاب في المناطق التي يكون الطرح القبلي فيها أقل وضوحا أو غير موجود, ولعل موقف جماعة الإخوان المسلمين من موضوع الحقوق السياسية للمرأة يصلح أن يكون مثالا في هذا المجال, ومع وجود هذا التأثير المتبادل إلا أننا في الواقع أمام ظاهرتين مختلفتين في أساسهما الفكري, فالقبيلة قائمة أساسا على فكرة الانتماء العائلي المشترك إلى جوار التحالف ولذلك فهى بطبيعتها ضيقة, أما الدين فهو قائم على الاشتراك في اعتقاد ديني ولذلك فإنه أكثر قابلية للامتداد والتوسع في قاعدته, ومن باب الاستطراد فان كلاهما يشترك في عدم تطابقه مع نطاق الدولة بالمفهوم القانوني، فالقبيلة من حيث مكوناتها البشرية, لا ترتبط بالضرورة بحدود النطاق الاقليمي للدولة, والدين كذلك لا يرتبط بالنطاق الإقليمي للدولة, والحقيقة السابقة تثير إشكالات تحتاج إلى حل عندما يكون للدين أو للقبيلة دور سياسي. إذا ما تركنا الاستطراد جانبا فاننا نلاحظ أن الموضوع محل الدراسة بشكل مباشر هو اثر الدين والقبيلة على الديمقراطية, ولذلك نقترح دراسة كل منهما بشكل منفرد من حيث أثره على الديمقراطية, مع إقرارنا بأن تداخلهما معا من الممكن أن يخلق تأثيرا إضافيا, ولكن قبل الدخول في عرض أثر كل من الدين والقبيلة على الديمقراطية قد يحسن أن نعرض لمصطلح الديمقراطية ذلك أنه بدون تحديد المصطلح وضبطه فقد نكتشف أننا لا نتكلم عن نفس الشيء ويغني كل منا على ليلاه.
أولا: الديمقراطية
للديمقراطية في إطار النصوص الدستورية مفهومان أحدهما يكمل الآخر.
أ. الديمقراطية كأسلوب لممارسة السيادة: الديمقراطية بهذا المعنى هي امتلاك الشعب أو الأمة للسيادة (التشريع والتنفيذ أو رقابته) وتمارس إما بشكل مباشر أو شبه مباشر أو نيابي.
وهذا المفهوم تتبناه الدساتير عادة, ومنها المادة السادسة من الدستور الكويتي, وتحرص الدساتير على تقرير أن ممارسة السيادة تقبل فقط في الإطار الذي يحدده الدستور(1).
ونلاحظ بأن هذا المفهوم للديمقراطية يرتبط بالدولة حيث أنه أسلوب للحكم فيها, كما أن هذا المفهوم يؤثر في طبيعة العلاقة بين السلطات الدستورية.
ب. الديمقراطية كأسلوب لتحديد العلاقة بين أفراد الجماعة والمؤسسات السياسية الرسمية: كشفت التجارب بأن الوقوف عند تقرير حق الانتخاب السياسي لا يعطي لأفراد الجماعة دورا حقيقيا وفعالا في توجيه عملية الحكم, إذ ان مجرد الانتخاب السياسي يقود من الناحية العملية إلى استقلال طبقة السياسيين وانفرادهم في إتخاذ القرار, فتباعد فترات الانتخاب في الديمقراطية النيابية وميل القيادة في التنظيمات السياسية لاتخاذ القرار بشكل شخصي يقود من الناحية الواقعية إلى تفريغ العملية الديمقراطية من محتواها, وللأسباب السابقة فان الديمقراطية لا تكتمل إلا بإفساح دور حقيقي لأفراد الجماعة لممارسة دور مواز في العملية السياسية, والحقيقة السابقة لا تقر بها فقط الأدبيات السياسية المعاصرة, بل هي تتشكل جزءا من الوثائق القانونية, فإذا أخذنا الدستور الكويتي كمثال, فان مذكرته التفسيرية (وفي الكويت تعتبر هذه المذكرة نصا ملزما) تقرر أن لرقابة الرأي العام دورا في خلق التوازن بين السلطات العامة وفي ضبط العلاقة بينهما وهذه الرقابة توازي في أثرها المسؤولية السياسية للوزارة.
وتربط المذكرة التفسيرية للدستور بين وجود هذه الرقابة "التي لا شك في أن الحكم الديمقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها, ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم," ووجود الحريات العامة مثل "مقومات الحرية (الشخصية في المواد 30, 31, 32, 33, 34 من الدستور) وحرية العقيدة المادة3, وحرية الرأي المادة 36, وحرية الصحافة والطباعة والنشر المادة 37, وحرية المراسلة المادة 39, وحرية تكوين الجمعيات والنقابات المادة 34, وحرية الاجتماع الخاص وعقد الاجتماعات العامة والمواكبة والتجمعات المادة 44, وحق تقديم العرائض إلى السلطات العامة المادة 45," ونلاحظ أن ربط تحقق الديمقراطية بوجود مؤسسات للمجتمع المدني تتمتع بالحيوية وتمارس دورا فعالا هو الوجهة الآخر لعملة رقابة الرأي العام التي تعرض لها المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي (2), كما نلاحظ بأن اعتبار رقابة الرأي العام هي الديمقراطية الموازية للديمقراطية السياسية بالمعنى النيابي, أمر لا يرتبط بالدستور الكويتي فحسب, فكل دستور يقرر وجود الحريات العامة فانه يصل لنتيجة منطقية وهي وجوب وجود رقابة رأي عام توازي في أثرها السياسي الديمقراطية النيابية بل هي تزيد عليها في الأثر.
إذا نستطيع أن نقرر بأن الديمقراطية لا تقتصر في معناها على وجود مجلس منتخب يمارس سلطة التشريع والرقابة على التنفيذ باسم الأمة, بل هي إلى جوار المفهوم السابق، رقابة من قبل أفراد الجماعة وهي رقابة نشطة تستطيع أن تأخذ الإطار القانوني المناسب, وهي فعالة لأنها تستطيع أن تؤثر على مؤسسات الحكم, كما أن هذه الرقابة فعالة, لأنها تستطيع الحصول على المعلومات وهي في مأمن من الخوف.
وبعد التقرير السابق الذي أتاح لنا تحديد المقصود بالديمقراطية, فإنه من المنطقي أن نعرض لمفهوم الدين ثم لمفهوم القبيلة بغرض فحص أثر كل منهما على مفهوم الديمقراطية.
ثانيا: الدين:
عندما نعرض لهذا المفهوم فإننا لا نقف عند تحديد مفهوم الدين وطبيعته باعتبار أن الدين الغالب في البلاد العربية هو الإسلام مع وجود أقليات غير مسلمة تتباين في نسبتها بحسب البلاد العربية, ففي بعضها تشكل الأقليات غير المسلمة نسبة ضئيلة جدا, وفي بعضها الآخر تشكل أقليات مهمة جدا من الناحية العددية. ودساتير البلاد العربية تأخذ بالمفهوم المعاصر في أساس السيادة فهي تقررها إما للأمة أو للشعب (3) مما يعني أنها تأخذ بفكرة الديمقراطية وإلى جوار ذلك فإنها باستثناء الدستور اللبناني, تقرر للدين الإسلامي وضعا رسميا وتجعل منه مصدرا أساسيا للتشريعات بل هي في بعض الأحيان المصدر الأساسي.
في ظل هذا الوضع قد يطرح سؤال عن مدى جواز صدور قوانين تنطلق من اجتهاد إسلامي وتتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحقوق والحريات بعامة, وهي كما رأينا أساس الصورة الأخرى للديمقراطية.
الدستور الوحيد الذي عرض للموضوع صراحة هو الدستور العراقي الجديد, وتصل المادة الثانية منه إلى النتيجة التالية, لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام أو مبادئ الديمقراطية أو مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور, أما عن بقية الدساتير فان عدم طرح الموضوع صراحة يجعلنا نطرح فرضيتين:
- أنه لا يوجد في الإسلام نص قطعي الثبوت والدلالة يتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحريات الأساسية المكفولة دستوريا, أما في المسائل الاختيارية فانه لا يجوز الأخذ بالاجتهاد المتعارض مع أحكام الدستور (4).
- أن مبادئ الديمقراطية والحريات المكفولة دستوريا تتمتع بقيمة دستورية لأنها مقررة في الدستور فلا يجوز والحال كذلك للمشرع العادي أن يضع نصوصا تتعارض مع مضامينها, وإلا كانت تشريعاته مخالفة للدستور.
ونحن وإن كنا نعتقد بسلامة الفرضية الأولى إلا إننا نعتقد بأن الفرضية الثانية واجبة الإتباع فهي تطبيق سليم لمبدأ المشروعية وتدرج القوانين, ولذلك فان المشرع العادي لا يستطيع أن يصدر قانونا يخالف أحكام الدستور حتى لو اعتقدت الأغلبية البرلمانية بأنها تطبق أحكام الشريعة الإسلامية, والنتيجة السابقة تقودنا إلى القول بأن الحكم الذي قرره المشروع الدستوري في العراق صراحة، هو موجود حكما في بقية الدساتير العربية التي تجعل من الإسلام المصدر الأساسي للتشريع العادي أو تجعل منه مصدر أساسي للتشريع العادي.
وإذا عرضنا لعلاقة الدين الإسلامي بالديمقراطية بمعنييها فإننا نلاحظ ما يلي:
أ. الإسلام ونظام الحكم : بالرغم من وجود مبادئ إسلامية قابلة للاستخدام في تحديد موقف من أسلوب الحكم، مثل الشورى والبيعة والعدالة، إلا أن النصوص الإسلامية تخلو من تحديد دقيق لأسلوب الحكم وهذا الواقع فتح الباب للاجتهاد، وهو اجتهاد ينطلق من فهم المجتهد للنص مع وجود الاختلاف في ثبوته أحيانا, كما أن بعض هذه الاجتهادات تنطلق من رصد وتحليل أسلوب الرسول في ممارسة الحكم (5) ، وفي ظل هذا الوضع فإننا نعتقد أن محاولة عرض موقف محدد للإسلام من الديمقراطية أمر غير مجدي من الناحية المنهجية لأننا سنكون أمام اجتهاد قد يتفق مع بعض الاجتهادات القائمة أو يختلف عنها ولكنه يبقى مجرد اجتهاد ولا يمكن تقرير أنه الحقيقة المطلقة، ولذلك فاننا نعتقد بأن عرض الاجتهادات قد يكون من الناحية المنهجية أسلم فسنكون أمام رصد للمواقف من العلاقة بين الدين الإسلامي والديمقراطية، وهو رصد قابل للتأكد منه كما أنه يسمح بتصور للاتجاهات الفكرية في الموضوع محل الدراسة. وفي هذه القضية من المنطقي أن يقرر الباحث رأيا في مسألة أولية وهي هل ينصب الرصد على مواقف المسلمين أم على مواقف الجماعات التي ترفع الشعار الإسلامي بشكل مباشر؟ نحن نعتقد من جانبنا بأن قصر الرصد على الجماعات التي ترفع الشعار الإسلامي أمر غير صحيح من الناحية المنهجية، فمن جهة فان هذه الجماعات متعددة وهذا يجعلنا أمام (أسلامات) متعددة, ومن جهة أخرى فان وصف هذه الجماعات لنفسها بالإسلامية ونفيها لصفة الإسلام عن الآخرين أحيانا لا ينفي في واقع الحال بأن الآخرين هم أيضا مسلمون, إذا فإن الرصد بغرض تكوين فكرة عن موقف الإسلام من الديمقراطية يجب أن ينصب على مواقف المسلمين وليس فقط مواقف الاتجاهات والجماعات ذات العنوان الإسلامي.
ب . بالنسبة للمسلمين خارج إطار الجماعات الإسلامية: نلاحظ بأن دساتير هذه الدول تقرر ربط السيادة بالأمة أو بالشعب مما يعني أنها تأخذ بفكرة الديمقراطية كنظام للحكم وهي تأخذ في الغالب بالديمقراطية النيابية, وموقف الدساتير في هذه الجزئية لا يلقى اعتراضا من قبل الشعوب العربية بل أننا نلاحظ بأن الشكوى إن وجدت هي من عدم فعلية هذه الديمقراطية ومن محاولة التأثير في نتائج الانتخاب او في عدم احترامها, إذا وجود الديمقراطية على الأقل بالمعنى الأول محل قبول من قبل أغلب المسلمين وفي الإطار السابق هناك مثال يصلح للاستشهاد به وهو وثيقة 1921 في الكويت, فهذه الوثيقة والمكونة من خمسة بنود وضعت بعد وفاة الشيخ سالم الصباح, وقد اعدت من قبل عدد من الأهالي بغرض معالجة أمرين وهما أسلوب تولي الحكم (البنود أولا, ثانيا, ثالثا) وأسلوب ممارسة الحكم (البنود رابعا, خامسا), وقد وافق الشيخ أحمد الجابر على هذا, الميثاق, ويجري نص البنود رابعا وخامسا على النحو التالي: "رابعا: المعين المذكور يكون بصفته رئيس مجلس الشورى, (ويقصد بذلك الحاكم)
خامسا: ينتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شؤون البلاد على أساس العدل والإنصاف" وأهمية الميثاق السابق بالنسبة لموضوعنا تكمن في الأسباب التالية:
- أن هذه الوثيقة وضعت في منطقة من العالم الإسلامي العربي في وقت لم تكن المفاهيم السياسية الغربية تشكل جزءا من المؤثرات الفكرية, فالوثيقة المذكورة تشكل محاولة لإصلاح نظام الحكم تقودها الفطرة التلقائية لمن وضعها واتفق عليها.
- أحد معدي هذه الوثيقة (الشيخ يوسف بن عيسى) كان يحضى بثقة الجماعة نتيجة تقديرها لعلمه الديني.
- بالنسبة لمعدي هذه الوثيقة هم بصدد وضع مجلس للشورى, أي أنهم في قرارة نفسهم داخل إطار المفاهيم الإسلامية والتقليدية في المنطقة.
ونلاحظ أن من وضع الوثيقة لم يكن يدرك مبدأ الفصل بين السلطات فمجلس الشورى "يدير شؤون البلاد" أي يمارس السلطة التنفيذية والتشريعية ولعل هذا الفهم للشورى (تنفيذ وتشريع) هو الذي يفسر دمج السلطات الذي أخذ به دستور 1938 في الكويت, فالدستور الأخير هو رد فعل على فشل الآلية الواردة في وثيقة 1921.
وإذا كان موقف المسلمين من الديمقراطية, كأسلوب لممارسة الحكم عن طريق انتخاب مجلس يمارس السيادة باسم الإمة, إيجابيا, فان الموقف من مكونات ديمقراطية الرقابة الشعبية, ونعني بذلك مجموع الحريات العامة على النحو الذي عرضت له المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي يبقى أقل وضوحا, فما زالت الديمقراطية في الذهن الجمعي في البلاد العربية تعني مجلسا منتخبا فقط, وإذا كان الأمر على نحو ما سبق بالنسبة للمسلمين خارج إطار الجماعات الإسلامية فما هو الموقف بالنسبة للجماعات الإسلامية؟
ج . الجماعات الإسلامية: عندما نعرض للجماعات الإسلامية فان أول ملاحظة تواجهنا هي تعددها, ومن ضمن المعايير التي يمكن استخدامها في تقسيمها معيار القبول بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية, أو عدم القبول بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية, وفي هذا الصدد نلاحظ أن الجماعات التي تشارك في الحياة البرلمانية تقبل بطبيعة الحال بالديمقراطية النيابية, ومع ذلك فاننا نلاحظ بأن هذه الجماعات في الغالب تضع لقبولها بنتائج الديمقراطية, وهي ممارسة التشريع وفق الضوابط الدستورية, معيارا خاصا بها, وهو عدم التعارض مع الثوابت الإسلامية, وهي ثوابت يكشف الواقع العملي بأنها في الغالب لا تعدو أن تكون مجرد اجتهادات.
وموضوع حقوق المرأة السياسية في الكويت يشكل مثالا جيدا لتوضيح الفكرة السابقة, فالجماعات السلفية أعلنت أن تقرير حق الانتخاب والترشيح للمرأة يخالف الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية ولذلك هي عارضته بشراسة أما جماعة الإخوان المسلمين فقد أعلنت, بعد تردد طويل، أن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهادا بناء على اعتبارات المصلحة الاجتماعية, وقد عارضت تعديل القانون بناء على ذلك، وفي الحالتين رجحت هذه الجماعات اجتهاداتها على حكم الدستور.
ولعل المثال السابق يقود إلى الوقوف عند موقف هذه الجماعات من الديمقراطية في شقها الثاني وهو رقابة الرأي العام التي تعتمد في وجودها على شبكة الحريات الأساسية المقررة دستوريا, وفي هذا الصدد يمكن أن نسجل بأن مفهوم "الثوابت" يقود في الغالب لتقليص الحريات (حرية التعبير مثلا) (6) متى ما كانت هذه الحريات لا تتسق مع الاجتهادات الدينية لهذه الجماعات, والموقف السابق لا يتخذ فقط في مواجهة الجماعات التي لا ترفع الشعار الديني بل هو موقف قابل للأخذ به حتى في مواجهة الجماعات الدينية الأخرى, ونعتقد أن المسلك المشار إليه منطقي لأن الجماعات الدينية تقوم على أساس عقائدي وهذا الأساس يقود من الناحية المنطقية إلى اعتبار أن صاحب المعتقد يمتلك الحقيقة المطلقة وغيره بطبيعة الحال خارج إطار هذه الحقيقة وهو تحليل يجد ترجمته الدقيقة في مفهوم "الأمة الناجية".
وبعد العرض السابق نستطيع أن نقرر بأن عدم وجود صورة دقيقة متفق عليها لنظام الحكم الإسلامي قاد إلى قبول الديمقراطية من قبل أغلب المسلمين وهو قبول استند إلى ما كشفت عنه التجارب المقارنة من كون هذا النظام يقود إلى نتائج إيجابية أو على الأقل أن مضاره أقل من النظم الأخرى, ومع ذلك فاننا لاحظنا أن الجماعات الإسلامية, وفي الشق القابل بالمشاركة بالعملية الديمقراطية المتاحة, ينظر بتحفظ للعنصر الآخر من الديمقراطية وهو الحريات العامة باعتبار أن هذه الحريات قد تتعارض مع اجتهاداته وهو يفضل الاحتكام لهذه الاجتهادات حتى لو كانت تتعارض مع المفاهيم الدستورية, وبالرغم من التحليل السابق فاننا نسجل أيضا أن بعض هذه الجماعات أكثر تقبلا للضوابط الدستورية من جماعات أخرى, أما الجماعات الإسلامية الرافضة للمشاركة بالتجربة السياسية العلنية فهي تنطلق في الغالب من منهج لا يرى إمكان الالتقاء بين الديمقراطية والإسلام.
ثالثا: القبيلة:
القبيلة تنظيم اجتماعي يقوم على ضم الأفراد الذين ينتمون إلى أصول مشتركة وهو أكبر من العائلة النواة أو العائلة الممتدة.
السبب الأول لوجودها هو توفير أكبر قدر من الحماية للأفراد المنتمين لها ولذلك فان مفهوم القبيلة قد يتسع استثناء للحلف وهو انضمام أفراد من خارج الأصول المشتركة للقبيلة للحصول على ميزة الحماية.
وأثر الدولة على القبيلة قد يسير في اتجاهين, إما يضعفها وذلك عندما تقوم الدولة من خلال مؤسساتها بتوفير الحماية للأفراد وإشباع حاجاتهم, أو في حالات أخرى تتعايش القبيلة مع الدولة وذلك عندما تفضل الحكومة التعامل مع أطراف محددين يكونون مسئولين أمامها عن الأفراد, وفي هذه الحالة فان رئيس القبيلة أو الطائفة المهنية هو الذي يتعامل مع ممثلي الحكومة نائباً عن القبيلة أو الطائفة المهنية ، وبالطبع فإن هذا المسلك يقوي دور الطائفة أو القبيلة على حساب الأفراد ، كما أن المسلك الأخير يقود إلى إعطاء القبيلة أو الطائفة المهنية وزناً سياسياً في إطار الدولة ، وعلى كل حال فإن الطائفة المهنية لم تعد تمثل وزناً مهماً في المجتمعات العربية وإن كانت الطائفة الدينية لا تزال تحتفظ بدور مهم . وفي العلاقة ببين القبيلة والديمقراطية يمكن أن نسجل عددا من الملاحظات:-
أ ) القبيلة والمواطنة: تقوم الديمقراطية في مفهومها الأول على أساس أن السيادة ملك لجميع المواطنين ، أي الأفراد الذين يرتبطون بالرابطة القانونية والمعنوية مع الدولة ، والانتخاب في هذا الإطار هو وسيلة المواطن في ممارسة السيادة . أما القبيلة فإنها تقوم على انتماء أفراد في إطار عائلي وقد يتطابق هذا الانتماء في نطاقه مع إقليم الدولة أو قد يعبر حدود هذا الإقليم فنحن أمام مفهومين مختلفين من حيث الأساس . كما أن مبرر وجود القبيلة في الأساس هو حصول الأفراد عن طريقها على الحماية التي يحتاجونها وهي حماية تعتمد على أساس الإنتماء للقبيلة ، أما في إطار الديمقراطية فيفترض أن يحصل الفرد على الحماية من الدولة التي ينتمي لها وهي حماية ترتبط فقط بواقع انتمائه لوطن محدد . وهذا التعارض الفكري بين المفهومين هو الذي يبرر تدخل المشرع في بعض الدول –مثل الكويت- لتحريم التقدم للانتخابات على أساس تمثيل القبيلة أو ما يسمى بالانتخابات الفرعية ، فالأساس الدستوري لعملية الانتخاب والترشيح هو المواطنة فقط (7) .
ب) القبيلة والسياسية: لا يتعارض النظام الديمقراطي مع حق الأفراد في تكوين أحزاب وهيئات ينضمون لها ، ولكن يلزم للقبول بهذه الأطر والهيئات (أحزاب سياسية ، جمعيات نفع عام) أن تكون قائمة على أساس فكرة لا تتعارض مع المواطنة ومن مظاهر عدم التعارض مع المواطنة أنه يمكن لأي مواطن ، متى ما توافرت فيه الشروط المطلوبة ، أن ينضم للهيئة أو المجموعة ، والأساس الذي تقوم عليه القبيلة لا يسمح لبقية المواطنين أن ينضموا له بإرادتهم ، فيمكن لأي مواطن أو يغير اهتماماته أو قناعاته السياسية والفكرية ولكن لا يمكنه أن يغير انتماءه العائلي ، ونلاحظ في هذا الصدد أن القوانين المقارنة تمنع قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني مباشر لأن مثل هذا لا يتسع بطبيعته كي يشمل كل المواطنين .
جـ) واقع الدور السياسي للقبيلة: بالرغم من التعارض بين القبيلة كوحدة سياسية ومفهوم الدولة الوطنية والديمقراطية ، إلا أن القبيلة في كثير من الدول العربية لا تزال تلعب دورا مؤثرا في الحياة السياسية فهي تحدد في بعض الحالات أعضاء البرلمان أو تحدد عددا من أعضاء الحكومة ، وهناك سببان في رأينا يفسران هذه الظاهرة ويكمل كل منهما الآخر:
- لا تزال بعض الحكومات تفضل التعامل مع وحدات جاهزة تغنيها عن التعامل مع كل مواطن بوصفه مواطن والقبيلة تمثل حلاً جيداً بالنسبة للحكومة فهي تسمح لها برقابة فعالة على الأفراد خاصة وإن هذه الحكومات لا تنطلق في قيامها بأعبائها من مفهوم الدولة الوطنية .
- فشل الدولة في تقديم الحماية القانونية للأفراد وفشلها في إشباع حاجاتهم يدفعهم للبحث عن إطار بديل للمواطنة وهذا الإطار هو بطبيعة الحال القبيلة ، وفي الأوساط الحضرية يمكن للطائفة الدينية أن تلعب دوراً شبيها بدور القبيلة .
الخـــاتمة:
بعد العرض السابق للعلاقة بين الدين والديمقراطية والقبيلة والديمقراطية يمكن أن نسجل عدداً من الملاحظات .
- هناك ميل للتقارب بين الجماعات الدينية والقبيلة باعتبار أن الجماعات الدينية الموجودة على الساحة هى ذات طابع محافظ ، وفي هذه الجزئية هى قريبة من القبيلة ، كما أن رغبة الجماعات الدينية في الانتشار والحصول على الحماية ، تشكل عنصراً إضافياً يدفعها للتوجه للقبيلة ، ولكن هذا التوجه يدفع الجماعات الدينية لقبول قدر أكبر من المحافظة كما أن الجماعات الدينية تضطر لغض النظر عن المتطلبات القبلية مثل العصبية حتى لو لم يكن لهذه التوجيهات أساس في الدين .
- بما أن مشروع الشرق الأوسط الكبير ينطلق في الأساس بمبادرة أمريكية ، فمن المهم أن نتلمس مدى تقبل النموذج الأمريكي لفكرة الدين والقبيلة كأطر سياسية ونلاحظ في هذا الصدد أن المفهوم الأمريكي للجمعيات قد يسمح بتقبل دور أكبر للقبيلة وللجماعات الدينية ، وبالنسبة للموضوع الأخير فإننا نلاحظ أن الإدارة الأمريكية الحالية قد مدت مفهوم الجمعيات التي يمكن تكليفها بتحقيق أهداف اجتماعية وتمويلها على هذا الأساس للكنائس، وعلى كل حال فإن مفهوم الدولة في أمريكا لا يتعارض مع توزيع بعض مهامها على وحدات خارج المنظومة الحكومية المباشرة من خلال التعاقد . وإذا أضفنا إلى التحليل السابق ميل السياسة الأمريكية للبراغماتية ، وواقع إدارتها للأمور في أفغانستان والعراق ، فإننا قد نميل إلى القول بأن احتمال تقبل دور أكبر للقبيلة والدين ، دون الأخذ باحتمال نشوء حالات من التعارض مع الديمقراطية، يصبح وارداً . ومن جانبنا فإننا نعتقد بأن التجربة الديمقراطية في البلاد العربية حديثة نسبياً ولذلك إن تعريضها لامتحان القبيلة السياسية والدين السياسي من الممكن أن يضعفها جداً .
الهوامش
1) ربط ممارسة السيادة بأحكام الدستور يأتي لأسباب عدة منها تحديد أسلوب الديمقراطية مباشرة أم شبه مباشرة أم نيابية، كما يسمح هذا الحكم لأحكام دستورية مثل مبدأ الفصل بين السلطات بالتأثير في نتائج سيادة الأمة .
2) نلاحظ أن التوجه لتركيز الضوء على فكرة المجتمع المدني كمكمل للديمقراطية السياسية يشكل، إلى حد ما، انعكاسا لتوجه آخر وهو الرجوع إلى فكرة اعطاء دور أكبر للمبادرة الاقتصادية الفردية، وعلى كل حال فإن هناك تزامن في طرح الفكرتين.
3) نلاحظ ان استخدام الدساتير حاليا لأحد المصطلحين لا يرتبط بالضرورة بترتيب الآثار القانونية الاصلية لهما مثل فكرة الوكالة القانونية الإلزامية او اعتبار الانتخاب وظيفة او حق وبالاخص ربطهما بالانتخاب العام أو المقيد، ومع ذلك فإن استخدام الدول الملكية لتعبير سيادة الامة المقصود به تفسير اختصاصات رئيس الدولة باعتباره مختارا من قبل الامة وهذا يشكل توفيقا بين المفهوم الديمقراطي ومفهوم الوراثة.
4) نلاحظ أن المحكمة الدستورية العليا في مصر وبعد إقرار الصيغة الحالية للمادة الثانية من الدستور المصري أصبحت تراقب القوانين الصادرة بعد التعديل الدستوري من حيث عدم تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية ، وهي لا تقرر عدم دستورية القانون من حيث تعارضه مع أحكام الشريعة الإسلامية إلا إذا ثبت لها تعارضه مع حكم قطعي في الشريعة، أما إذا كان في المسألة آراء فهي ترى أن للمشرع العادي أن يختار الرأي الأكثر ملاءمة لحاجة المجتمع .
5) نحن نعتقد بأن محاولة استنباط تصور لنظام الحكم الاسلامي انطلاقا من منهج الرسول يفسر إلى حد كبير الدور الديني الذي يسبغه بعض الدراسين على رئيس الدولة في النظام المتصور ويقوي الامر عندما نعتبر رئيس الدولة خليفة الرسول.
6) وهذا الموقف لا يرصد فقط بالنسبة لحريات التعبير التقليدية مثل حرية النشر، ولكن هناك محاولات لمدة كي يصل حتى لحرية المشاركة السياسية عن طريق وضع شروط تتصل بالمظهر والملبس بالنسبة لبعض الناخبين مقابل الاقرار لهم بحق المشاركة في العملية السياسية، وهو ما يحاول البعض الدعوة له في الكويت وهو بصدد تفسير القانون 17/2005 الخاص باشتراط توافر " الالتزام بالقواعد والاحكام المعتمدة في الشريعة الاسلامية" بالنسبة للمرأة كي تمارس حق الترشيح والانتخاب، دون تحديد لمحتوى هذه الاحكام ومضمونها وجهة اعتمادها. ونلاحظ ان هذا المسلك لم تأخذ به بعض الدول الاسلامية فحسب (ايران بالنسبة للمرشحين) ولكنه استخدم قبل ذلك في الاتحاد السوفييتي في بداية عهده من خلال ربط حق الانتخاب بتوافر شروط ايديولوجية. وفي كل الاحوال نحن نعتقد أن وضع هذه الشروط يتعارض مع فكرة الديمقراطية المترتبطة بالمواطنة فقط.
7) نلاحظ أن الفقرة الخامسة من المادة 45 من قانون الانتخاب وهي معدلة بالقانون 9/1998، لا تستخدم تعبير قبيلة ولكنها تستخدم تعبير "فئة أو طائفة معينة".