هل هو المدخل لمعالجة سوء أداء المؤسسات السياسية؟

الأبحاث المنشورة

عدد القراءات: 1181


بقلم: محمد الفيلي
أمام اضطراب العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأمام سوء اداء الحكومة والمجلس المنتخب للتشريع والرقابة، حاول البعض البحث عن حل، ومن ضمن الحلول التي طرحت افتراض ان مكمن الداء هو التنظيم المقرر لهذه العلاقة وبالذات الدستور، ولذلك طرحت فكرة تعديل الدستور، خصوصا ان هذا الدستور لم يعدل منذ صدوره عام 1962. واذا كانت مشكلة سوء اداء السلطات العامة واضحة بدليل ضعف ادائها المتمثل في سوء اداء الاجهزة الحكومية وتوتر العلاقة بين الحكومة ومجلس الامة، والذي اخذ مظاهر متعددة منها امتناع الحكومة عن حضور جلسات مجلس الامة لفترة طويلة، واندفاع اعضاء مجلس الامة في تقديم مقترحات تشريعية تتعارض مع الصورة التي رسمها الدستور للفلسفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، فهل السبب في ذلك هو اسلوب تنظيم السلطات العامة الذي اخذ به الدستور وهل يكون حل المشكلة بتعديل الدستور؟ ثم لماذا لم يعدل الدستور الكويتي مع انه يقترب في عمره من الخمسين عاما؟
سنحاول من جانبنا ان نتعامل مع هذه الاسئلة.. ولعله من المستحسن ان نعرض لموضوع تعديل الدستور على مستوى القانون المقارن قبل الدخول في الحالة الكويتية.

}


أولا: تعديل الدساتير
بما ان التساؤل كان هو مدخلنا للموضوع فلعل نفس الاسلوب ملائم للتوغل فيه قليلا، ولذلك نطرح الاسئلة التالية:
ــ هل الدستور قابل للتعديل؟
ــ لماذا يكون التعديل اصعب في بعض الدول واسهل في دول اخرى؟

أ- قابلية الدستور للتعديل:
الدستور قانون ينظم ظاهرة السلطة في الدولة، ولذلك هو يحدد شكلها واسلوب الحكم فيها، فيحدد السلطات العامة من حيث تكوينها ووظائفها واسلوب توليها، وفي مرحلة متقدمة اصبحت الدساتير تحدد الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وتنظيم مركز الفرد في مواجهة الدولة والحقوق والحريات العامة، واذا كان الدستور قانونا ينظم سلوكا اجتماعيا، واذا كان موضوع التنظيم هو الظاهرة الاجتماعية، واذا كانت هذه الظاهرة بطبيعتها متغيرة، اذا يجب ان تكون القاعدة المنظمة قابلة للتغيير، والا فقد نصل الى مرحلة تكون القاعدة بعيدة جدا عن الواقع، وبالاضافة الى ذلك فإن ربط تشريع القانون بالديموقراطية يقود الى القول بعدم جواز منع تعديل القانون على الارادة الشعبية، ولذلك اخذ بعض الفقه وحتى بعض المشرعين موقفا من النصوص المانعة من تعديل بعض احكام الدستور، ولعل الخطاب الاوضح في هذا المجال ما قررته المادة 28 من اعلان الحقوق الفرنسي الصادر عام 1793 والتي تقرر أن من حق الشعب دائما تعديل دستوره وليس لجيل ان يلزم الاجيال اللاحقة بارادته.
واذا كانت الاعتبارات السابقة تقود إلى منطقية تعديل الدستور، فإن هناك اعتبارات أخرى تقود إلى التأني في التعديل، بل إلى منع التعديل في مواضع معينة من الدستور، فسمو الدستور واتفاق الجماعة على وجود قيم تشكل حجر الزاوية في حياتها يقود إلى وجوب جعل التعديل أصعب أو حتى ممنوعاً:

1 ــ سمو الدستور
الدستور هو القانون الذي يحدد وجود السلطات العامة في الدولة ويقرر وظائف هذه السلطات وأسلوب عملها، ومن ضمن هذه السلطات السلطة التشريعية. فإن كانت هذه السلطة قادرة على تغيير احكامه كما تغير في القوانين فإن الدستور سيفقد وظيفته المعيارية، كما ان مثل هذا الأمر سيجعل التفريق بين السلطة التأسيسية (المنشئة) والسلطات المنشأة أمراً غير واضح، واذا كان السمو لا يرتبط من الناحية النظرية بالجمود، فالدستور البريطاني على الرغم من مرونته لأنه قابل للتعديل من قبل المشرع العادي فإنه ما يزال سامياً بمعنى ان القيم الاساسية فيه مثل الديموقراطية وحماية الحريات العامة والنظام البرلماني لا يمس بها المشرع العادي ولا يسير تعديل القوانين الا في اتجاه تأكيدها (التعديل الأخير في قانون البرلمان لعام 2003 يعطي دوراً أكبر لمجلس العموم المنتخب)، ومع ذلك فإن الحالتين البريطانية والاسرائيلية هما الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فلا تركن الدول للسمو الموضوعي بل تقرنه بالسمو الشكلي وهو يتحقق عندما يكون تعديل الدستور باجراءات خاصة أصعب من تعديل القانون، واختيار درجة الصعوبة يتباين بحسب الدول، فبعضها يجعل التعديل بيد السلطة التشريعية ولكن اقرار التعديل يحتاج لاجراءات أطول وأغلبية أهم لاقراره، بل تشترط بعض الدول ان يمر التعديل عبر الشعب مباشرة من خلال الاستفتاء، وتصعيب اجراءات التعديل يقود لفكرة السمو الشكلي فلا يعود القانون المخالف للدستور معدلا له لان اجراءات تعديل الدستور مختلفة عن تعديل القانون وهذا الواقع يقود لامكان تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، كما ان تصعيب اجراءات التعديل يقود إلى حماية الدستور من التعديلات المتسرعة وهو ما يحفظ للدستور دوره كقاعدة معيارية، ومن ضمن الآليات المعروفة في القانون الدستوري لحماية الدستور من التعديل المتسرع وضع فترات لا يجوز فيها التعديل وبالذات في الفترة الاولى من وضعه، وقد ابتكر المشرع الدستوري البرتغالي اسلوباً خاصاً في هذا المجال، فهو يشترط توافر اغلبية الثلثين (66.66%) من قبل البرلمان لتعديل الدستور اذا ما كان التعديل السابق قد مضى عليه خمس سنوات، اما اذا كان التعديل السابق لم تمض عليه هذه المرة فإن الدستور البرتغالي لعام 1976 يشترط في هذه الحالة توافر اغلبية الاربعة أخماس (80%).

2 ــ حماية القيم الاساسية
منع تعديل احكام الدستور في ظروف معينة (حالة احتلال جزء من اقليم الدولة بالنسبة لدستور 1958 الفرنسي) او حماية احكام معينة من التعديل مثل الشكل الجمهوري للدولة (دستور 1958 الفرنسي، دستور 1949 الالماني) او الشكل الملكي للحكم (دستور 1962 الكويتي، دستور 1978 الاسباني) او الحقوق والحريات (الدستور الكويتي واكثر الدساتير الاوروبية). امر دارج في الدساتير. وهذه الاحكام تجد تفسيرها في الاحداث التاريخية التي مرت بها بعض الدول او في اعتقاد الجماعة بان هذه الاحكام تشكل حجر الزاوية في النظام السياسي للدولة وان المساس بها يعني المساس بجوهر النظام السياسي للدولة، وهذه الاحكام دفعت ببعض الفقه للقول بوجود تدرج في القيمة القانونية لنصوص الدستور بل اعتبر بعض الفقه بان هناك احكاما تعلو في القيمة على احكام الدستور، ولذلك لا يجوز للمشرع الدستوري ان يعدل في الدستور بما يخالفها ويغدو تعديله في هذه الحالة باطلاً، واذا كان لهذا الرأي سند فكري فان الاخذ به في اطار واقع القانون الدستوري القائم يعتبر صعبا، مع ذلك فان هذه النظرية تجد لها تطبيقا منظما في المانيا لان الدستور الالماني بعد ان قرر عدم جواز مخالفة مشروع الدستور للشكل الاتحادي والديموقراطي للدولة وعدم جواز الاخلال بالاحكام المقررة للحقوق الاساسية للافراد جعل المحكمة الدستورية مختصة بفحص مشروع تعديل الدستور وجعل لها الحق بتقرير عدم مشروعية مشروع التعديل، والى جوار الحل الذي اخذ به الدستور الالماني فان القضاء الدستوري في ايطاليا يقرر ان هناك مبادئ سامية لا يجوز للدستور ان يخالفها مما يعني امكان مراقبته لمشروع تعديل الدستور.
ويقدم الدستور الاسباني حلا توفيقيا في هذا المجال، فهو يقرر ان بعض احكام الدستور تمتنع على التعديل وفق الاجراءات العادية ولذلك يضع لتعديلها احكاما خاصة، فيلزم لتعديلها ان تعرض على البرلمان فاذا ما قرر الموافقة على تعديلها من حيث المبدأ يحل البرلمان ويعاد انتخابه وفي هذه الحالة لا يتم اقرار تعديل هذه الاحكام الا اذا قرر البرلمان الجديد (وهو مكون من مجلسين) الموافقة على التعديل باغلبية الثلثين ومن بعد ذلك يجب ان يعرض موضوع التعديل على الشعب في استفتاء لاقراره.



نستخلص مما سبق ان فكرة الدستور ذاتها تقتضي ان يكون تعديله ممكنا، لانه قانون يحكم السلوك الاجتماعي، فلا يستقيم ان نقول ان موضوع القاعدة متغير وحكم القاعدة غير قابل للتغيير كما ان عدم جواز التعديل مطلقا يتعارض مع المبدأ الديموقراطي ذاته، فلا يجوز لجيل ان يحجر على من يأتي بعده، ومع ذلك فان وظيفة الدستور ذاته لا تستقيم الا بتوفير قدر من الجمود له، فبدون هذا الجمود يفقد الدستور سموه، والحل هو تصعيب اجراءات التعديل كي يمكن للدستور أن يظل قانوناً معيارياً يضع حدوداً للسلطات العامة، كا ان هذه الوظيفة تقتضي ايضاً حمايته من التعديل المتسرع، بل ان جعل بعض احكامه غير قابلة للتعديل اصبح في الواقع امراً مقبولاً، لأن الدساتير اليوم اصبحت تقوم بشكل متزايد بوظيفة القوانين الاساسية التي تحمي الديموقراطية من اندفاع الأغلبية، فقد اثبت الواقع ان الديموقراطية النيابية لا تكفي لحماية قيم الديموقراطية من الاندفاع الذي تحكمه الازمات.

اذا كان الدستور قابلاً للتعديل في اطار هذه الضوابط فما الذي يفسر كثرة حالات التعديل في بعض الدول وقلتها في دول اخرى؟
ب- كثرة التعديلات وقلتها:
اذا ما تركنا جانباً دول العالم الثالث وقصرنا المراقبة على اوروبا واميركا فسنجد ان ظاهرة تعديل الدستور من حيث عدد مرات التعديل والاحكام التي ينصب عليها التعديل تلفت النظر، بل ان بعض المراقبين ينظر اليها بحذر. ففي حلقة نقاشية نظمتها الجمعية الفرنسية للدستوريين عام 2006 سجل مقرر الحلقة الاستاذ
B.MATHIEU ان كثرة تعديلات الدستور في بعض البلاد سوف تقود الى صعوبة التفرقة بين القانون والدستور، وان هناك خشية من ان التعديل هو وسيلة تخفي فيها المؤسسات السياسية المشكلة الحقيقية، ذلك ان التعديل مؤشر على وجود مشكلة، وان هناك خشية من ان يتم استبدال حل المشكلة باللجوء لاجراء التعديل، لأنه اسهل من حل المشكلة ذاتها.
واذا ما تركنا التشخيص السابق جانباً عرضنا لظاهرة التعديل ذاتها من خلال نماذج محددة، فاننا سنجد ان مرات تعديل الدستور الفرنسي وفق اجراءات المادة 89 قد وصل الى 16 مرة، ولكن عدد مرات التعديل لا يكشف دوما عن موضوعات التعديل بشكل دقيق، فاذا كانت التعديلات القديمة تتصل بعدد بسيط من النصوص، فان التعديلات الاحدث تنصرف الى اعداد كبيرة من النصوص، فتعديل عام 2003 اضافة كتلة كاملة من النصوص وهي الاعلان البيئي، اما التعديل الأخير وهو تعديل عام 2008، وقد كان عنوان مشروعه تحديث مؤسسات الجمهورية الخامسة، فقد انصب على 35 حكماً في الدستور.
ويلاحظ أن المقاربة بين الدول قد تعطي نتائج مستغربة، ففي حالة البرتغال واسبانيا الوضع الظاهر يدعو للاستغراب لأول وهلة، فعمر الدستورين متقارب (البرتغال عام 1976 واسبانيا 1978) وهناك تقارب ثقافي بين البلدين. ولكننا نلاحظ أن الدستور الاسباني عدل مرة واحدة فقط وبمناسبة اقرار الاتفاقية الاوروبية، أما الدستور البرتغالي فقد عدل سبع مرات، ولكن بعض هذه التعديلات (1982 و1989) انصرف في كل مرة إلى ما يقارب المائتي مادة من دستور عدد نصوصه يصل إلى حوالي ثلاثمائة.
واذا كان دستور 1949 الألماني كما الدستور الاميركي كلاهما يأخذ بالأسلوب الاتحادي الذي يؤدي إلى تصعيب اجراءات التعديل عادة، فإن الدستور الاميركي الصادر عام 1787، وهو اقدم الدساتير المكتوبة في العالم، عرف حتى عام 1998 سبعة وعشرين تعديلا من اصل ثلاثة وثلاثين مشروع تعديل مقرة من قبل البرلمان، في حين ان الدستور الألماني لعام 1949 اقر فيه لنفس التاريخ اثنان واربعون تعديلا.
واذا ما بحثنا عن تفسير لهذا الأمر فإننا نعتقد أن مدى ارتباط الدستور بفكرة التوافقية أو بفكرة العقد الاجتماعي يمكن أن يفسر عدد التعديلات.

1ــ الدستور عقد اجتماعي
وجود الحاكمين والمحكومين داخل الجماعة المنظمة ظاهرة اجتماعية، وفي الدول الملكية يؤدي النظام الوراثي لتحديد الحاكم والمحكوم بشكل مسبق، ولذلك فإن الدساتير في مثل هذه الجماعات كثيرا ما يتم تكييفها بأنها عقد، لأن الدستور وبمناسبة تنظيمه لظاهرة السلطة يحدد اسلوب تولي الحكم واسلوب ممارسة الحكم وحقوق الحاكم وواجباته وحقوق المحكومين وواجباتهم، ويصبح تكييف الدستور كعقد اكثر وضوحا عندما يتم وضع الدستور باتفاق بين الحاكم والشعب.
وإذا ما تركنا جانبا اسلوب وضع الدستور، فإن الدستور بعد أخذه لهذه الصفة ليس عقدا من الناحية القانونية، ولكنه قانون ينظم عملية الحكم وبالتالي فإنه ينظم المركز القانوني للحاكم والمركز القانوني للمحكوم، وهو بصفته قانونا ينظم السلوك الاجتماعي ملزم للحاكم والمحكوم بنفس الدرجة، وبالرغم من غياب الأساس القانوني لوصف الدستور بأنه عقد وبالذات بعد إقراره وبالرغم من وضوح تباين الطبيعة القانونية بين القوانين (والدستور قانون) والعقود، فإن الوصف السياسي للدستور بأنه عقد ظل صامداً في بعض الأحيان ولعل تفسير ذلك يكمن في أمرين:
- استمرار أثر نظريات العقد الاجتماعي والعقد السياسي وهي نظريات ظهرت في القرن الثامن عشر لتفسير ظاهرة السلطة في الجماعات المنظمة.
- تكييف الدستور بأنه عقد يقود الى جعل التزام الحاكم بقواعد المشروعية التي يقررها الدستور أكثر سهولة، فهو يلتزم بما كان هو ذاته طرفاً في إقراره.
والتكييف السياسي للدستور بأنه عقد يقود إلى التردد العملي في تعديل أحكامه، وهذا ما نلاحظه في الدساتير الملكية القديمة وبالذات بعد الثورة الفرنسية، ونلاحظ ان الدساتير الملكية الحديثة في أوروبا لا ترتبط في وجودها بصفة العقد حتى لو وضعت بهذا الأسلوب لأن الجماعة تتعامل معها بوصفها قانونا، وهذا يعني انها تعدل، وفق الإجراءات المقررة فيها، كقانون، كلما استشعرت الجماعة أن هناك حاجة منطقية لتعديل بعض أحكامها، إما لأن العمل قد كشف عن قصور هذه الأحكام، أو لأن الجماعة تبتغي تغييراً في بعض الأحكام لأن هناك قناعة بأهمية التعديل.

2- التوافقية كأساس للدستور
من المنطقي أن يوجد حد أدنى من التوافقية لوضع الدستور، خاصة إذا ما وضع بأسلوب ديموقراطي ولكن ولادة بعض الدساتير ترتبط بمخاض عسر، وأحياناً طويل ناتج عن صعوبة التوفيق بين الكتل التي شاركت في وضعه، وفي هذه الحالة فإن تعديل الدستور يغدو صعباً جداً لأن فتح باب التعديل هو فتح لتقديم مطالب متعارضة، خاصة إذا كانت هذه الأطراف عديدة ويستند الأستاذ
Pierre BON لهذا الأمر لتفسير سهولة مرور التعديلات في الدستور البرتغالي مقارنة بالدستور الاسباني (تقييم التعديل الدستوري، الحالة البرتغالية، حلقة النقاش التي نظمتها الجمعية الفرنسية للقانون الدستوري، 14 نوفمبر 2006 www.droitconstilutonnel.org  ,
وبعد المحاولة السابقة لتفسير واقع قلة التعديلات في بعض الدساتير، نعتقد ان طبيعة الدستور تقتضي الحذر في تعديله وقولنا بوجوب الحذر والاقتصاد لا يعني القول بعدم جواز التعديل، بل ان الامتناع عن التعديل او الافراط في الحذر منه مؤشر بذاته على وجود خلل في النظام السياسي للدولة. واذا ما حاولنا تقسيم تعديلات الدستور والبحث عن وصف لها، فاننا امام احتمالات كثيرة، فالتعديل قد يكون جزئياً ينصب على حكم واحد او احكام قليلة، وقد يكون واسعا ينصرف الى عدد مهم من الاحكام من دون ان يكون شاملا لكل الدستور، وقد يكون التعديل هادفا لاصلاح خلل في نص من النصوص كشف العمل عن سوئه، وقد ينصرف التعديل لتبني توجه جديد للجماعة بل قد ينصرف التعديل لتغيير الميكانيكية التي قام عليها الدستور، وقد يكون التعديل واجباً اقتضته التحولات السياسية وقد يكون مستحبا. ويمكن لنا ذكر امثلة في الدستور الفرنسي ( ما دمنا في اطار القانون المقارن) فالتعديل الذي قدمه الرئيس جيسكار ديستان عام 1974 كان ضروريا في ظل الظروف التي وصل فيها الرئيس الى الرئاسة، فليس من السائغ ان يسمح النظام السياسي بوصول الرئيس عن طريق الائتلاف السياسي من دون ان تكون للأقلية حقوق تسمح لها بقدر معقول من الفاعلية، ولذلك كان منطقيا تعديل الدستور على نحو يسمح للاقلية بالاحتكام للقضاء الدستوري، اما التعديل الاخير (عام 2008) فهو في رأيي اقرب الى المستحب، وان كان يقتضيه منطق اقتراب فرنسا اكثر من النظام البرلماني، عبر توحيد مدة الرئاسة بمدة الجمعية الوطنية، فبعد هذا التعديل اصبح منطقيا ضبط اختصاصات الرئيس حتى يوجد اساس من المشروعية السياسية لاستخدامها، كما ان زيادة اختصاصات البرلمان تصبح امرا جيدا للرئيس فهو ايضا رئيس للاغلبية البرلمانية. وتعديل الدستور لا ينصرف فقط الى المؤسسات السياسية بل قد يكون تعبيرا عن فلسفة جديدة يؤمن بها المجتمع، ومثال ذلك تعديل الدستور الفرنسي عام 2003 لاقرار العهد البيئي، فالاعتقاد بحق الانسانية في بيئة سليمة يتجاوز القناعات والتقسيمات السياسية التقليدية. واذا كنا في الامثلة السابقة قد عرضنا لتعديل الدستور كأمر واجب او متسحب فان تعديل الدستور من الممكن ايضا وصفه بانه سيئ، وذلك ان كان الباعث له سيئا مثل تقليص الديموقراطية او اضعافها، او كان التعديل غير قائم على دراسة جدوى قانونية.
واذا كان تعديل الدساتير في القانون المقارن على النحو الذي عرضنا له فما هو القول في تعديل الدستور في الكويت.

ثانيا: تعديل الدستور الكويتي
تفاعل واضعو الدستور الكويتي مع الاعتبارات التي تحكم الدساتير فجعلوا دستورهم قابلاً للتعديل ولكن وفق إجراءات خاصة اشد من إجراءات تعديل القانون وقد جعلوا للسلطة التنفيذية دوراً مماثلاً لدور السلطة التشريعية في تعديل القانون على نحو يجعل التعديل مستحيلا من دون موافقة الأمير، وقد اخذ الدستور الكويتي بالتوجه العام في كثير من الدساتير عندما قرر ان مسائل معينة محجوبة عن التعديل. وإذا ما استعملنا قواعد التحليل اللغوي فإننا نجد ان المشرع الدستوري يوجه رسالة لمن يتولى تعديل الدستور، فهو لا يستخدم التعبير القانوني الدارج وهو «تعديل» ولكنه يستخدم تعبير «تنقيح» وذلك في المواد 174 و175 و176، وإذا كان التعديل تعبيراً محايداً يعني التغيير في أي اتجاه كان فإن لفظ «التنقيح» يفترض ان التغيير الى الأفضل فقط، والدستور الكويتي لم يتم تعديله إلى الآن، وإن كان قد قدمت اقتراحات بتعديل حكم المادة الثانية منه، كما ان الحكومة في فترة تعطيل احكام الدستور كونت لجنة للنظر في دراسة أفكار لتعديل بعض أحكام الدستور ولكنها لم تتقدم بأي مشروع لتعديل الدستور، وقد ظهرت دعوات سياسية للتفكير بتعديل الدستور كوسيلة للتعامل مع توتر العلاقة بين السلطتين التنفيذية و التشريعية أو كأسلوب للتعامل مع سوء اداء السلطات العامة. ونعرض لأحكام التعديل أولاً ومن بعد ذلك لمدى الحاجة الى التعديل.

أ- أحكام التعديل:
تقرر المادة 174 من الدستور عدم جواز تعديل الدستور قبل مضي خمس سنوات على العمل به، وهذا الحكم يجد مبرره في توفير فترة من العمل المتكامل بالدستور قبل الحكم على صلاحية أحكامه لتحقيق الأغراض التي وضع لأجلها، وبمضي هذه المدة (شهر يناير عام 1968) يصبح تعديل أحكامه (تنقيحها) ممكنا وفق الإجراءات التي رسمتها المادة 174 ووفق التحديدات التي قررتها المادتان 175 و176.

1 - إجراءات التعديل
إذا ما تركنا جانباً الأحكام التي لا يجوز تعديلها مطلقاً أو في ظروف خاصة فإن تعديل الدستور يمر بمراحل ثلاث وهي الاقتراح والإقرار من حيث المبدأ والإقرار النهائي.

الاقتراح
حق الاقتراح مقرر لثلث أعضاء مجلس الأمة كما هو مقرر للأمير والاداة التي يمارس بها الأمير حق الاقتراح هي المرسوم، لأن الأمير يمارس اختصاصاته بواسطة وزرائه إلا ما ورد فيه حكم خاص، وبما أن حق الاقتراح المقرر في المادة 174 لم يرد به حكم خاص من حيث الاداة فنرجع للأصل العام.
- الإقرار من حيث المبدأ:- لتحقيق هذا الأمر يلزم ان يقر اغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة مشروع التعديل، وأن يصدر مرسوم عن الأمير بالموافقة على الاقتراح من حيث المبدأ وبدون اجتماع الإرادتين لا يمكن الانتقال للمرحلة الثالثة وهي الإقرار النهائي.
- الإقرار النهائي:- لا يقر مشروع التعديل أو اقتراح التعديل إلا بموافقة أغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة (الأعضاء المنتخبين والأعضاء بحكم وظائفهم أي الوزراء حتى لو لم يكونوا من المنتخبين) ولا يكون التنقيح نافذا مع ذلك إلا بعد تصديق الأمير عليه واصداره، وقد حرص الدستور على تقرير ان إجراءات تعديل الدستور لا تنطبق عليها الأحكام المقررة للتشريع العادي كما وردت في المادتين 65 و66 ولذلك لا يلزم صدور مرسوم مسبب لرفض التصديق على المقترح الذي اقره مجلس الأمة، كما أن المجلس لا يستطيع تجاوز اعتراض الأمير بأي أغلبية كانت، وإذا رفض اقتراح التعديل من حيث المبدأ أو من حيث موضوع «التنقيح» فلا يجوز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض.
ونلاحظ في الإجراءات التي قررتها المادة 174 لتنقيح الدستور عددا من الأمور، فهذه الإجراءات جعلت سمو الدستور لا يقف عند السمو الموضوعي ولكنه أيضاً يأخذ وصف السمو الشكلي فهو دستور جامد، تعديله يحتاج الى إجراءات اشد وأصعب من إجراءات تعديل القانون العادي فالأغلبية اللازمة للإقرار اهم من الأغلبية اللازمة لوضع تشريع عادي. وبالإضافة لذلك فإن الشركاء في هذا التعديل يقومون بدور متساو، فلا يمكن لأحدهم ان يتجاوز موافقة الآخر، فإذا كان القانون من الممكن ان يصدر بارادة مفترضة للأمير عند عدم التصديق عليه او عدم رفض التصديق خلال شهر، فإن الدستور لا يصدر الا اذا صدق عليه الامير فعلا وهو لا يحتاج عند رفض التصديق لتقديم اسباب لذلك فيمكن لرفض التصديق عدم التصديق فقط دون حاجة لإصدار قرار بذلك.
وفي الجزئية الاخيرة يمكن ان يطرح التساؤل عن المدة التي تلزم للقول بأن الاقتراح اصبح مرفوضا اذ ان الدستور لم يحددها فهل يعتبر الاقتراح مرفوضا اذا لم يتم التصديق خلال شهر ام اكثر ام اقل؟، خصوصا ان النص يرتب حكما على رفض الاقتراح وهو عدم جواز اعادة تقديمه «من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض»نعلم بأنه لا يمكن القياس على احكام التشريع العادي لأن نص المادة 174 قرر صراحه ذلك، اما اذا اخذنا بظاهر النص فمدة العام تظل معلقة حتى صدور قرار الرفض او بسقوط الاجراءات لنهاية الفصل التشريعي، علما بأن العمل في الولايات المتحدة الاميركية يجعل مشروع التعديل المقر من قبل البرلمان قائما حتى يصدر قرار عن مشرعي الولايات بأغلبية الثلاثة أرباع بإقراره او رفضه وقد اقر التعديل السابع والعشرون للدستور عام 1992 مع انه قد تم قبوله كاقتراح عام 1789.
واذا كان اكتمال الاجراءات السابقة يكفي لتعديل احكام الدستور فإن ذلك لا يعني إمكان تعديل اي حكم من احكام الدستور وفق هذه الاجراءات اذ ان الدستور نفسه يحمي بعض احكامه من التعديل اما مطلقا او في ظروف خاصة.

2ـ الممنوع من التعديل
تقرر المادة 175 «الاحكام الخاصة بالنظام الاميري للكويت وبمبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها ما لم يكن التنقيح خاصا بلقب الإمارة او بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة». وتقرر المادة 176 ان «صلاحيات الامير المبينة في الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها في فترة النيابة عنه». وفي موضوع الاحكام المحمية من التعديل يمكن ان نتساءل عن نطاق المنع من التعديل والرقابة على احترام احكام هذا المنع.
- نطاق المنع: بالنسبة لمبادئ الحرية والمساواة فان المنع من التعديل ينصرف الى المساس بها لأنها الحد الادنى الذي يقرر الدستور القبول به اما الزيادة في هذه المبادئ فهي مقبولة بشرط ان تتضمن هذه الزيادة «ضمانات للحرية والمساواة» المقررة في هذا الدستور او ان يأتي التعديل بطائفة جديدة من الحقوق والحريات وهو ما يعبر عنه بالجيل الثالث من الحقوق والحريات الذي لم ينص عليه دستور1962.
اما عن «الاحكام الخاصة بالنظام الاميري للكويت» فان المنع من التعديل لا ينصرف لاحكام قانون توارث الامارة الذي تقرر المادة الرابعة امكان تعديله وفق الاجراءات المقررة لتعديل الدستور، كما ان المنع من التعديل لا ينصرف «لصلاحيات الامير المبينة في الدستور «لان المادة 176 تجيز تعديلها في غير فترة النيابة عن الامير فنطاق المنع بالنسبة لها محصور في فترة النيابة عن الامير،ولذلك فإن المنع من التعديل سوف ينصرف لذات مبدأ الوراثة في الحكم كما قررته المادة الرابعة من الدستور باعتبار انه بقية الاحكام قد وردت في قانون توارث الامارة وهو قانون قابل للتعديل وفق احكام تعديل الدستور.

3- الرقابة على احكام المنع
احكام المنع من التعديل احكام ملزمة لورودها في الدستور ومع ذلك فان تقرير المساس بها من المكن ان يكون محل تساؤل فهل يناط امر هذه الرقابة بجهة محددة، منفصلة عن الاطراف المشاركة في التعديل؟ هل يمكن للقضاء بشكل عام او للمحكمة الدستورية ان تقرر عدم سلامة اقتراح التعديل او مشروع التعديل او ان تقرر بطلان قرار التعديل لصدوره بالمخالفة للضوابط التي قررتها المادتان 175 و 176؟ للأسف يخلو الدستور من حكم في هذه المسألة.
أماعن القضاء العادي فاقتراح تعديل الدستور كأي اقتراح آخر غير قابل أن يكون محلا لمنازعة قضائية، وكذلك مرسوم تقديم مشروع الاقتراح. أما عن «الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح» والتي تشير اليها المادة 173 من الدستور، فإن اختصاصها، كما هو مبين في الدستور، فحص دستورية التشريعات، والاقتراح والمشروع ليسا من التشريعات. أما بعد اقرار التعديل فإن اختصاصها كما هو ظاهر من النص ينصب على التشريعات الادنى من الدستور، لأنها تـفحص مشروعية هذه التشريعات وفق المعيار المقرر في الدستور. أما أحكام الدستور، وهي كلها ذات القيمة نفسها حتى لو كان بعضها ممنوعا من التعديل، فلا تدخل في اطار الرقابة، لا يبقى كجهة رقابة مباشرة الا السلطتان التنفيذية والتشريعية كأطراف في عملية تعديل الدستور تحت رقابة الرأي العام.
وأحكام التعديل التي قررها الدستور الكويتي لم تطبق لأنه لم يناقش امام مجلس الامة اقتراح لتعديل أي حكم من أحكام الدستور، بالرغم من التداول السياسي لفكرة تعديل الدستور، فلا الحكومة استخدمت حقها للتقدم بمشروع تعديل الدستور، ولا الأعضاء اقترحوا تعديلا للدستور خارج اطار المادة الثانية. هل هذا ناتج عن قناعة بكفاية أحكامه المنظمة للعلاقة بين السلطات؟ أم أن هناك حاجزا نفسيا في مواجهة التعديل؟ وهل هناك حاجة حقيقية لتعديل الدستور؟
ب - مدى الحاجة لتعديل الدستور: مهما بذل المشرع من جهد في إعداد النص بشكل متقن فإن احتمال وجود فرضيات لم يدرسها المشرع أمر وارد، كما أن العمل قد يكشف عن فرضيات لم يعالجها النص بشكل جيد، وبالإضافة لما سبق فإن بعض الأحكام تقرر بناء على واقع قائم وقت اعداد النص، ولذلك فإن المنطق يقود الى وجوب تعديل هذه الأحكام لتغير الواقع بعد دخول النص حيز التنفيذ، فهل توجد الفرضيات السابقة في اطار الدستور الكويتي؟ نحن نعتقد أن هذه الفرضيات قائمة ونعرض لأمثلة لها.
فمن ضمن الفرضيات التي لم يعرض لها النص ذكرنا مسألة عدم تحديد ميعاد للرفض واثر ذلك على احتساب المدة التي لا يجوز تقديم اقتراح جديد لتعديل الدستور فيها، كما تقرر المادة 174 من الدستور، ومن ضمن أمثلة النصوص التي لم يرد فيها توضيح يضبط التطبيق نص المادة 152 وايضا المادة 153 فموارد الثروة الطبيعية على اطلاقها واسعة جدا، فالماء والهواء والشمس من موارد الثروة الطبيعية مثلا، فهل الترخيص باستخدام الطاقة الشمسية او حركة الرياح كمصدر لتوليد الطاقة أو حتى الترخيص بتعبئة الماء في زجاجات يحتاج الى ترخيص تشريعي؟ نعم الاعمال التحضيرية والعمل ساهما في تفسير النص ولكن الاصل ان يحتوي النص على الضبط اللازم كأن يناط بالمشرع العادي تحديد الحالات التي تحتاج الى ترخيص وفق معيار الأهمية أو أثر الاستهلاك على أصل المصدر. ونلاحظ في هذا الاطار ان الدستور بعد ان منع تعديل بعض الاحكام، لم يحدد آلية الرقابة القضائية لمراقبة التعديل. وتحديد عدد أعضاء مجلس الأمة، كما ورد في المادة 80 من الدستور، يقدم مثالا جيدا للأحكام التي تم تقريرها بناء على الواقع القائم وقت إعداد النص، فالأعمال التحضيرية تقرر بوضوح بأن اختيار الرقم خمسين لتحديد عدد الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمة ارتبط بعدد سكان الكويت وقت اعداد النص، وهذا يعني منطقيا أن ثبات العدد حتى اليوم أضحى غير مقبول لزيادة عدد السكان، وبذلك يصبح التعديل في حكم الواجب.
وتعديل الدستور لا يرتبط بالضرورة بالفرضيات الجزئية التي عرضنا لها، فالدستور لا يمنع اطراف التعديل من ان يقدموا افكارا لتعديل الدستور ماداموا لا يخالفون الضوابط المقررة في المادتين 175 و176، وليس من دورنا ان نفترض، بدلا من مجلس الامة أو الامير أو الحكومة، النصوص او الاحكام الواجب تعديلها أو المواضيع الواجبة اضافتها للدستور، ولكننا نعتقد أن هناك أمورا تفسر عدم حماس اطراف التعديل في تفعيله وهما أمران، الاول هو الميكانيكية التي تم اعتمادها لوضع دستور 1962، ونعني بذلك بناءه على أساس تقبله لأكثر من أسلوب في تنظيم تشكيل الحكومة مع اعطائها قدرا كبيرا من الحماية، والأمر الآخر هو الاسلوب التوافقي في إعداد الدستور.

1- ميكانيكية تشكيل الحكومة وضماناتها
عند البحث عن نظام الحكومة الأمثل للكويت طالب البعض بالنظام الرئاسي لأنه، كما يعتقدون، يوفر الاستقرار للحكومة ويعطيها القدرة على تنفيذ سياستها من دون معوقات، وطالب الفريق الآخر بالنظام البرلماني لأنه يوفر رقابة شعبية لعملية الحكم، ولكن أيا من الفريقين لم يستطع ان يفرض تصوره فالنظام الرئاسي لا يستقيم من دون انتخاب الرئيس والنظام البرلماني يعني أن الحكومة تعين من قبل الشعب فهو يختار الأغلبية البرلمانية التي بدورها تفرض الحكومة، ومثل هذا الحل لم يكن مقبولا بالنسبة للأسرة الحاكمة، كما ان النظام البرلماني لا يستقيم من دون احزاب سياسية والأحزاب السياسية لم تكن مقبولة لدى قطاعات مهمة من الرأي العام، لأن التجارب العربية انذاك قدمت عن الأحزاب صورة منفرة، ولذلك تم التوجه الىنظام يسمح بتبني البرلمانية إلى حد كبير كما يسمح بالابتعاد عنها إلى حد بعيد، وترك أمر الاقتراب من الحكومة البرلمانية أو الابتعاد عنها بيد الأمير فهو يختار رئيس مجلس الوزراء بأمر أميري ويمكنه ان يختار رئيس مجلس الوزراء من الأغلبية البرلمانية (إن وجدت) كما يمكنه أن يقدر غير ذلك ولا يفرض عليه الدستور إلا إجراء مشاورات تسبق اختيار رئيس مجلس الوزراء. فالدستور، وإن جعل في حكم المستحب اختيار الحكومة من الاغلبية البرلمانية فإن حكم الواجب ينصرف فقط الى وجوب اختيار وزير على الاقل من خارج البرلمان ووزير من داخل مجلس الامة والى جوار ذلك أعطى الدستور للحكومة مزايا عديدة فهي عضو في مجلس الأمة يشارك في الأعم الأغلب من انشطته، بما في ذلك تشكيل لجان المجلس، ولم يجعل للمجلس تحريك المسؤولية السياسية للحكومة إلا بعد الاستجواب، وهو ما يوفر للحكومة فرصة مضاعفة لمواجهة محاولات تحريك مسؤوليتها السياسية، ووفر حماية إضافية لرئيس مجلس الوزراء إذ لم يسمح للمجلس بطرح الثقة به، مستبدلاً النظام التقليدي للمسؤولية السياسية بنظام خاص وهو إعلان عدم إمكان تعاون ويترتب على هذا الطلب الاحتكام الىالأمير فإما ان يحتكم الأمير بدوره للشعب ويحل المجلس كي تعاد الانتخابات او ان يقيل رئيس مجلس الوزراء، والأمران السابقان يعوقان، من الناحية العملية، تحريك التعديل في مجال اسلوب تشكيل الحكومة فمن يطالب بالحكومة البرلمانية لا يستطيع ان يطالب بالتعديل فالدستور فتح الباب أمام وجودها، بل ان المذكرة التفسيرية جعلتها الهدف المأمول الوصول اليه، وعدم الوصول الفعلي اليه ليس خطأ من الدستور فلا توجد أغلبية برلمانية حقيقية وغياب الأحزاب كمعوق نظري لعدم وجود الاغلبية المنضبطة في البرلمان يعود الى تقاعس المشرع وعدم رغبته في اقرار تنظيم للاحزاب السياسية. ومن يطالب بحكومة تكنو قراط أو كفاءات لا يستطيع ان يطلب تعديل الدستور فالدستور لا يمنع ذلك، بل أنه يوفر للحكومة ضمانات كثيرة تجعلها قادرة على العمل حتى من دون مساندة كبيرة من البرلمان فهي تملك ما يقارب ثلث عدد أعضاء مجلس الأمة ولذلك فيكفيها ان تقنع بعض أعضاء مجلس الأمة المنتخبين كي تنفذ برنامجها.
والموقف السابق للدستور أغلق من الناحية العملية باباً مهماً من ابواب التعديلات، اما بقية ابواب التعديل فإن عدم فتحها قد يجد تفسيره في وجود الحاجز النفسي الناتج عن التوافقية التي قادت لوضع الدستور.

2ـ التوافقية
اسلوب تنظيم تشكيل الحكومة يكشف عن قدر كبير من التوافقية في وضع الدستور الكويتي وهي توافقية لم تكن كافية لحسم كل نقاط الخلاف، ففي بعض المسائل اضطر اعضاء المجلس التأسيسي الى ترحيل نقاط الخلاف للمستقبل كي يتمكنوا من تجاوزها، ففي مسألة الاحزاب السياسية مثلا، ونتيجة عدم قدرتهم على حسم الموضوع في اتجاه منع الاحزاب السياسية او في اتجاه تنظيمها رحلوا الموضوع للمستقبل وجعلوه بيد المشرع العادي. وتكشف الاعمال التحضيرية ان بعض نقاط الخلاف لم يتمكن اعضاء المجلس التأسيسي من تجاوزها من دون تدخل عبدالله السالم، مع انه كان خارج المجلس التأسيسي من الناحية القانونية. وقد بقيت القوى السياسية المشاركة في وضع الدستور بعد وضعه، حتى لو حدث تغير في نسبة تأثيرها، وهذا الواقع قاد عمليا الى صعوبة طرق باب تعديل الدستور فكل طرف يرى ان احكام الدستور تشكل الحد الادنى لقناعاته وبالتالي هي لا تلائمه تماما، ولذلك هو يرغب في تغييرها ولكنه يعلم ان مشروعه للتعديل لا يناسب بالضرورة بقية الاطراف، وبالتالي هو وضع يجسده المثل الشعبي «امسك مجنونك حتى لا يأتيك أجن منه». ولعل البعض يقول ان هذا التفسير وان كان يساعد في فهم لماذا لم يعدل الدستور فانه لا يحل المشكلة، ونحن من جانبنا لا نعتقد ان مشكلة العلاقة بين السلطات او سوء ادائها راجع الى عدم تعديل احكام الدستور، ودليلنا ان طبيعة هذه العلاقة وطبيعة هذا الأداء ليستا على وتيرة واحدة، فقد مررنا منذ عام 1962 بفترات افضل من اخرى مع ان الدستور كان ثابتا مما يدل على ان المشكلة لا تكمن في احكام الدستور، وفي هذا الصدد نلاحظ أن اداء السلطات العامة وتحقيق التنمية ليسا بالأمر السيئ في اسبانيا علما بأن الدستور الاسباني لم يعرف تعديلا مهما منذ تاريخ اقراره عام 1978، مع ان الاجندة الاسبانية تحتوي على عدد من مشاريع تعديل الدستور تنتظر الفرصة الملائمة لتقديمها.
في ختام هذا المقال نحن نعيد التذكير بان الدستور قد قرر اسلوب تعديله، وان من يرى ان تطوير اداء السلطات العامة يرتبط بتعديل الدستور عليه ان يتقدم بمشروعه كي يكون محلا للبحث والتقييم ويمكنه في حال تقديم مبررات حقيقية ان يجد انصارا لمشروعه.